حديث الشعر وحواراته

 

سالم بن محمد بن أحمد العبري

 

استقر مجلس الخليلي للشعر في معهده الذي انتظم به منذ تواتر جلساته الشهرية بعد أن ودّعه منشؤه الشيخ عبدالله بن علي بن عبدالله الخليلي والذي استقر في نهايات عمر الشيخ عبدالله بمنزله بالقرم وكنت قد حضرت منه بضع جلسات فلم تكن انشغالاتي المتعددة تمنحني الوقت اللازم لارتياد جلساته، رغم أننا لم نكن نفوت تلك الأنشطة بالنادي الثقافي والمنتدى الأدبي وبعض الجلسات ببيت المرحوم الأخ هلال العامري وبعضا منها بمنزل الأخ الشاعر والمهندس المكرم سعيد الصقلاوي.

كانت الجلسة عادت إلى مركزها بمنزل الأخ الشيخ محمد بن عبدالله الخليلي في بوشر حين فرغ من التعديلات والصيانة لمرافق البيت التي تنتظم به الجلسات وخدمات القاعات فقد أهّل قاعة للقاء بحيث يجلس الحضور غير متباعدين ولمزيد من التفاعل والانتباه وتتوسط القاعة طاولات محاذية للكراسي المصفوفة على جوانب المجلس وفي صدارته جهزت بآلات التصوير ومكبرات الصوت ومنصة الإلقاء، وجُهزت قاعة طعام واسعة ممتدة محاذية لغرفة الصلاة ذات خشب متين وكراسٍ راكزة لاتنحي إلا لله

افتتح الشيخ محمد الخليلي الجلسة مع التاسعة بُعيد أداء فرض العشاء كالمعتاد وحين نبهناه أن الوقت يمضي وأننا تعجلنا الوصول مع السابعة والنصف رغبة وحباً وشكرا لله أن أتم له إعداد المكان كما أراد وهيأ الموالى الوسائل والنعم ورحّب بالحضور مُهنئاً من وُفقوا لأداء فريضة الحح وعادوا قبل ليلتين، ثم أمر الأخ موسى بن قسور العامري أن يقدم المختارة من شعر الشيخ عبدالله الخليلي- رحمه الله- كما كان النهج المتبع، وكانت القصيدة حديث الشعر وحواراته، وكان موسى يشنف آذان زملائه.

(رجاء كما فاح النسيم عن الورد/ وشوق كما أذكى الزناد حشا الصلد)، (وطيف كأنفاس الحبيبين في اللقا/ يعبرّ عن وجد ويرتاع من بُعد)، (وهجر ولا هجر الشتيتين عن قلى/ ولكنه هجر اللقاء إلى حدّ)، (ووصل كما هبت عن المنية الصبا/ ونارت بأفلاك الرضا أنجم السعد)، (رعى الله من أهوى وإن شط داره/ وحياه بالنسرين والآس والورد)، (أحبه قلبي إن تكن بيننا النوى/ فما هي إلا لذة الوصل من بعد)، (أحبه قلبي إن يك الهجر كلفة/ فما هو إلا كانتظار على وعد)، (سلام عليكم من فؤاد مدلّه/ غذاه هواكم منذ أن كان في المهد)، (سلام عليكم لا يكن آخر اللقا/ غداة اجتمعنا تحت أردية الوُدّ)، (ودارت كؤس الحب صرفا وضُمِّختْ/ بغالية الإخلاص حاشية البُرد)، (وحيّ الهوى أهل الهوى ومشى الرضا/ يجرّ عليهم ذيل فائحة الندّ)، (هو الحب في كل اشتياق ولوعة/ ولكنه خدّ يطل على خدّ)، (وعين على عين ودمع بدمعة/ وقلب على قلب وقدّ على قدّ)، (كذلك في حالَي حضور وغيبة/ يوحّد مشتاقين في صدف الجَدّ).

ثم يشد علينا وهو يصور الحب بالسيادة، نعم وتسليم القياد له والرضا، بل نراه اندماج بين الحبيبين ويتخطاه إلى الشعور بالعبودبة للحبيب المتسيّد، وكأنّه في فردوس حال إذا كنا في موازنة بين الحبيبين (هو الحب ما أحلى السيادة والرضا/ مبادلة بين الحمائل والعِقد)، (هو الحب ما أقساه إن كان سيدا/ يدل بسلطان الغرام على عبد)، (هو الحب كم شاك لديه وشاكر/ وما العدل إلا ما يعيد وما يُبدي)، (رأى الناس فوضى فاطمأنّ إلى الوفا/ يبادلنا فضل الصفاء على الوِرد) (وأضفى علينا بردة لؤلؤية/ تشف عن الفردوس في نفحة الخلد)، (فلله منا ضعفُ ما فوق وسعنا/ من الحمد ما يربو على الشكر والحمد)، (هو الحب ما أحلى السيادة والرضا/ مبادلة بين الحمائل والعقد)، (هو الحب ما أقساه إن كان سيدا)/ يدل بسلطان الغرام على عبد)هو الحب كم شاك لديه وشاكر/ وما العدل الا ما يعيد وما يبدي).

ثم يذهب بنا الخليلي إلى صور أخرى من صور مظاهر الحب؛ فالاشتياق إلى الحركة المشتركة والمشي معا وتعاقد اليدين وتوازي الروحين والجسدين (هلم بنا نمشي رويدا لعلّنا/ نصادف أثناء السرى منية القصد) (نداجي الهوى حتى يلين قياده/ فنشكو إليه ما نعانيه من جهد).

ثم قيّد الحب بالنفس فهو ليس تغزلا بعيدا عن الواقع، بل واقع يدل عليه تمثيل الصور الحية الجازمة (شقيق الهوى إن كنت لا تتّقى الهوى/ فإني أخشى أن تصاب على عمد) (شقيق غرامي إننا توأما هوىً/ رضعنا لبان الحب شهدا على شهد)، (ولدنا على جفن النعيم وعينه/ يباركنا فيه الغرام عن المجد).

ثم يماثل حبهما بحب (قيس ولبنى)، وهي مماثلة تدل على تمكن الغرام بينهما وتمثلهما بقصص الحب الخالدة الشهيرة (نروح ونغدو حيث لبنى وقيسها/ حيارى بلا وعي نشاوى بلا رشد)، (ندارى عيون الدهر وهي كليلة/ ونخشى جماح الكيد وهو على القِدّ).

ويمضي بنا اشاعر وهو يحكي ما يلاقيه المحبون فهو وإن كان يداري عيون الدهر والكيد وترصد الذين يحسدون أو يغارون بل قد يستنكرون(إذا نحن طارحنا الغرام شكا لنا/ من الصدّ ما يشكو المشوق من الصدّ)، (وإن نحن قاسمنا الهوى لذة الهوى/ أباح بما يخفيه من لذعة الوجد)

ولم يقتصر بأن يرينا صور ذلك الحب؛ بل نصبه على مثال صورة قس بن ساعدة وهو يقوم خطيبا مفوها بين القوم وهم يشهدون له على بلاغته:(وقام علينا في المحبين خاطبا/ فكان الوحيد الفرد في الجوهر الفرد).

لا شك أنّ هذه القصيدة تحتاج إلى كتاب أوحلقات لنقف عليها وقوف المتذوق لبراعة الشاعر في تمثيل حلاوة الحب القادر أن يعيش مع المحبين وإبداعهم الذى أوحاه ذلك الامتزاج المقدس؛ لذلك كان إلقاء موسى بن قسور لأبياتها يأخذني بعيدا مع الشيخ عبد الله الخليلي، وترن في أذني الكلمات وتسافر بي إلى زمن صورته البديعة الأولى حيث خلود الحب المقدس، وعادت بي أطياف الذكريات فأنشات أقول: (فيا قبلة وجهت وجهي نحوها/ أقول كمجنون يسمي باسمها)، (يشيب بنونا بل وإن شئت بعدهم/ يشيب بنوهم إن حبي جديدها)، (فطوفي على بيت عرفتك عنده/ وطوفي على الأركان توفين حقها)، (ولاتبخس حقا يميز قاعة/ بها العلم مطلوب ولكن فضلها)، (على العلم لا يخفى فكم من هنيهة/ طغي الحب لا أقوى على الرد يالها)، (لحيظات مغروم تسر معينه/ على جبهة غراء عنون حسنها)، (وكم مرة وجهت وجهي وصادها/ لأنظر في المرآة نور سنائها)، (وكم مرة مدت يداي لكأسها/ لأشرب منه بعد رقياء فائها)، (وكم مرة أومأت لي لأرتأي/ فرآتها الفنجان من بعد شربها)، (وكم مرة تحكي فرات كفها/ وكفي فلا أعني تخمين حدسها)، (وكم مرة حاولت تصفف شعرها/ أعيد خصيلات إلى أصل رأسها).

تعليق عبر الفيس بوك