اقتصاد المعرفة.. نحو تنمية مستدامة شاملة (3)

 

 

الدكتور إبراهيم بن عبدالله الرحبي *

Ibrahim1alrahbi@gmail.com

رؤية عمان 2040 نموذجا

 

أولا: مرتكز كفاءة الإدارة الحكومية والحوافز

أشرنا في المقال الثاني من هذه السلسلة إلى أهمية اقتصاد المعرفة في تحقيق التنمية المستدامة استنادا للدراسات التجريبية وعوامل النمو السريع والممكنات التي تدعم هذا التحول في التنمية الاقتصادية الجديدة. وسوف نبدأ اعتبارا من هذا المقال بيان المرتكزات الأربعة التي يمكن أن تحقق التنمية المستدامة على ضوء ما ورد في وثيقة مستهدفات رؤية "عمان 2040" معززا بنتائج تجارب بعض الدول والأدبيات التي صدرت مُؤخرا حول هذا الجانب. ففيما يتعلق بسلطنة عُمان وغيرها من الدول التي بدأت تلحق بركب عالم اقتصاد المعرفة، فإنَّ الدور الحكومي لا بد أن يكون محوريا في تحديد وتوجيه ودعم ممكنات اقتصاد المعرفة كونه البوصلة التي توجه هذه المنظومة وهو ما نراه جلياً في هذه الرؤية ضمن الأولويات الوطنية في محوري الكفاءة الحكومية والقيادة والإدارة الاقتصادية.

وترجع أهمية الدور الحكومي في المراحل الأولى لتطبيق اقتصاد المعرفة إلى الدراسات التجريبية التي تؤكد أن المعرفة تتدفق حول النظام التنموي برمته، أي بين الأفراد والشركات التجارية، والمؤسسات الأكاديمية والبحثية المتخصصة. ونظرا لأهمية هذا التفاعل والتكامل الحيوي بين منتجي ومستخدمي المعرفة، بات الدور الحكومي في تطوير اقتصاد المعرفة مهمًا للغاية في سبيل تسهيل وتعزيز خلق بيئة تنموية ملائمة لبناء أسس الاقتصاد القائم على المعرفة. وتتضح المساهمة الإيجابية للحكومات في هذا الشأن في تجارب بلدان منظمة التعاون والتنمية والاقتصاديات الآسيوية سريعة النمو. ومرد هذا الاستنتاج إلى أن المنافسة بين الشركات تخلق عادة تضاربا في المصالح، وبمقدور الحكومات وحدها المساعدة في تجنب صراعات المصالح هذه، وتعزيز الثقة بينها من خلال تعزيز سيادة القانون والمؤسسات الرقابية المُحايدة.

ونُعرِّج في هذا المقال على ثلاثة من المؤشرات التي تطرقت وأسهبت فيها أدبيات اقتصاد المعرفة في مجال مرتكز الكفاءة الحكومية والحوافز وهي في ذات الوقت تضمنتها رؤية عمان 2040 بصورة مباشرة أو غير مباشرة والتي يمكنها أن تقود التحول إلى اقتصاد المعرفة خاصة في مراحله الأولى التي تتطلب تدخلا حكوميا بين الحين والآخر لضمان النجاح. وقد تمت الاستعانة بقاعدة بيانات البنك الدولي في قياس هذه المؤشرات وتقييمها والتي تقوم على الدراسات الاستقصائية التي تم استخلاصها من حوالي 31 مصدرا مختلفا، و25 مؤسسة من المؤسسات الفكرية الدولية ومراكز البحوث والمنظمات والأفراد، والشركات المحلية التي لديها معرفة مباشرة بالجهاز الإداري للدولة قيد الدراسة.

* كفاءة الإدارة الحكومية: يقيس هذا المؤشر نوعية تقديم الخدمات العامة، والبيروقراطية، وكفاءة موظفي الخدمة المدنية، ومصداقية التزام الحكومة بالسياسات المتطورة والخلاقة. ويقاس هذا المؤشر وفقا لسلسلة "ممارسة الأعمال" (Doing Business)، والذي يستخدم على نطاق واسع كأداة تقييم موثوق بها من قبل البنك الدولي وغيرها من المؤسسات الفكرية الدولية. وقد ورد هذا المؤشر ضمن أولويات رؤية عمان 2040 ليكون تطلع سلطنة عمان ضمن أفضل 30 دولة بحلول العام 2030 صعودا من المرتبة الحالية 81 من بين 209 دول. وبالرغم من صعوبة المهمة إلا أننا نكاد نجزم بأن مناجم تسهيل الإجراءات التي تنفذ حاليا والتحول الإلكتروني المتسارع يدعونا للتفاؤل للوصول إلى الهدف المنشود.

* كفاءة النظام التشريعي واستقلالية القضاء: يقيس هذا المؤشر معدل انتشار السياسات غير الصديقة لاقتصاد المعرفة، مثل عدم وجود النظم القانونية اللازمة لتشجيع الابتكار وحماية الشركات المحلية، فضلا عن الأعباء التي يفرضها الإفراط في الإجراءات التنظيمية في مجال تطوير الأعمال. ويتم تقييم هذا المؤشر أيضا وفقا لسلسلة "ممارسة الأعمال" (Doing Business)، ولله الحمد نجد أن سلطنة عمان تعد حاليا من بين أفضل الدول على مستوى العالم في هذا المؤشر حيث تحتل حاليا المرتبة 18 على مستوى العالم. وبحسب مؤشرات رؤية عمان 2040، فإن الهدف الوصول للمرتبة 5 على مستوى العالم بحلول عام 2030. ولا يساورنا أدنى شك في أن تحقيق الهدف المنشود ممكنا مع تسارع خطوات التحديث والتطوير، بجانب توطين افضل الممارسات العالمية في مجالي القضاء والتحكيم مع منظومة متكاملة للرقابة الفاعلة والمستقلة في هذا المجال الحيوي لممارسة الأعمال وجذب الإاستثمارات خاصة الأجنبية منها.

* الحوافز الاقتصادية: يقيس هذا المؤشر الحوافز الاقتصادية التي تقدمها الحكومة لتنمية دور القطاع الخاص وتعزيزه من حيث وجود بيئة تنافسية نزيهة، ووجود قوانين الملكية الفكرية، والتسهيلات المالية والإعفاءات الحكومية، والرسوم غير المعقدة وغير المرهقة، والنفقات خاصة الإستثمارية منها، وغيرها من أنواع الدعم التي تُسهم في تعزيز المكانة التنافسية العالمية. ويقاس هذا المؤشر وفقا لقاعدة بيانات معهد البنك الدولي التي تعتمد على تقرير التنافسية العالمي. ويأتي هذا المؤشر ضمن منظومة القيادة والإدارة المالية لرؤية عمان 2040 وفق تشريعات اقتصادية فعالة وممكنة تواكب المتغيرات وقيادة اقتصادية بصلاحيات ملزمة ذات مهام واضحة وسريعة الاستجابة للاحتياجات التنموية. ومن المؤمل أن تكون سلطنة عمان بين أفضل 30 دولة على مستوى العالم بحلول عام 2030 صعودا من المرتبة 47 الحالية من بين 140 دولة.

وبإسقاط المؤشرات الثلاثة أعلاه على مرتكز رؤية "عمان 2040" في مجال الحوكمة والأداء الحكومي، فإننا نقدر حجم المسؤولية الملقاة على هذا المرتكز الحيوي، والطموح ليكون من بين أفضل عشرة أجهزة على مستوى العالم. ومع ذلك، لا بد من الإشارة هنا إلى أن العديد من العقبات الرئيسة التي تعترض تطوير اقتصاد المعرفة في بعض الدول تعود إلى البيئة القانونية غير السليمة والمعقدة. إذ إن الشواهد التجريبية تشير إلى أن المستثمرين عموما يشعرون بالقلق في المقام الأول تجاه الإطار التشريعي غير السليم، أكثر من نظرتهم للحوافز المالية، حيث يفضلون وضع الاستثمارات، خصوصا الكبيرة وطويلة الأجل منها في الدول التي لديها سياسات قانونية موثوقة وواضحة وشفافة.

وختاما.. نؤكد في هذا المرتكز على العلاقة بين كفاءة الأداء الإداري الحكومي والأداء الاقتصادي الجيد والمستدام؛ حيث يرتبط ارتفاع معدل نصيب الفرد من الدخل ومستوى الأداء الحكومي ارتباطا إيجابيا وثيقا. مع الحاجة إلى انتهاج بعض الحذر من التقليد غير الملائم لخصوصيات سلطنة عمان. ومنشأ هذا الحذر يكمن في ضرورة النظر إلى نوعية الأداء الحكومي وفقا لقيمنا وخصوصياتنا الثقافية بعيداً عن استيراد أو تطبيق المفاهيم الإدارية الجاهزة والدخيلة.

 

* متخصص في اقتصاد المعرفة  

تعليق عبر الفيس بوك