صحون المديرة

 

 

فاطمة اليماني

 

"أنتَ تعرفُ نصفَ الحقيقة، والنصف الآخر لنْ يجعلكَ أكثرَ سعادة".

محمد المنسي قنديل

***

وما المانع أنْ تشغلها فكرة فتح الخزانة طوال اليوم؛ بل قبل ذلك بأسبوع! بل شهر أو شهرين! أو مرور عامٍ كاملٍ على وعيدها بكسر القفل إذا لم تعثر على المفتاح!

تلك الفكرة التي زادت السحبَ السوداءَ المحلّقة فوق رأسها درجةً قاتمةً إضافية!

ولم تتبخر إلا مع صوت تهشيم باب الخزانة المغلقة منذ عقدين؛ لأنّها كانت حريصة على سلامة الباب! وطلبت من شقيقها إحضار عامل لحلّ إشكالية القفل الذي بدوره نسى إحضاره، ونسَت مثله في معمعةِ الحياة: الخزانةَ، والمفتاحَ، وجدوى إحضار العامل!

وكما يحدث في الأفلام! أفاقت من غيبوبتها! وفجأةً... أبصرَت العمياءُ!

ورَأت مطرقةً في زاوية من زوايا المطبخ الذي تعبره يوميًا ذهَاباً، وإيابًا دون أنْ تنتبه لتفاصيله!

فتناولت المطرقة، وهوَت على أبواب الخزانة؛ غير آسّفةٍ للشظايا المتناثرة من فُتَاتِ الخشب المطحون. لكنّ الخزانة لم تكن مغارة علي بابا! ولم تكن تحتوي على شيء يثيرُ دهشتها! كل ما في الأمر مجموعة من صناديق الأواني المنزلية، وبعض الأوراق الصفراء، وقصاصات جرائد كانت تعتقدُ بأنّها قيّمة المحتوى!

كما كانت تعتقدُ بأنّ كل ما هو قديم صالح للتقدير والاحترام!

ورغم استيائها من شعورها بالسخرية من تفكيرها السابق حول قيمة الأشياء التي كانت تمجدها، إلّا أنّ هذا الشعور أخذ مسارًا آخر حين وقع بصرها على صحون زجاجية زرقاء، وُضِعت في وعاءٍ من الفلّين، مغطى بكرتون أحمر، شفّاف من الوسط.

أعادتها هذه الهدية -بالذّات- إلى ذكريات أول عامٍ دراسي لها كمعلمة، حيث حصلت عليها نتيجة جهودها الجبّارة في التدريس، وفي العمل التطوعي، والأنشطة المدرسية، وفي تدريس 24 حصّة دراسية، لطالبات الصف الخامس! نيابة عن زميلتها -شقيقة المديرة- التي كانت في إجازة أمومة! فرفضت جميع زميلاتها تدريس الصف الخامس، وأظهرت كل واحدة منهن عذرها الطبي، والنفسي، والاجتماعي!

ولم يتبق إلّا هي! المعلمة العازبة المستَجدّة في المدرسة؛ بلا مسؤوليات جسام! لذلك كانت أكثر المعلمات كفاءة لتحمّل المسؤولية! فأمرتها المديرة في اجتماع غاضب حرصت فيه على رفع حواجبها للأعلى ونفخ أوداجها، بأن تدرّس طالبات الصف الخامس، بينما توزّع فصولها الدراسية على زميلاتها!

حاولت الندب والشجب، وأنْ ترفض أو تعارض، لكن زميلاتها سبقنها في مهرجان الرفض، وعلا الصراخ، وخرجت إحداهن غاضبة، وحرصت على إغلاق الباب بقوة تتلاءم مع جبروت رفضها!

واستسلمت لمصيرها، وغرقت في معمعةِ التدريس، وفي التكيّف مع طبيعة طالبات الصف الخامس، المختلفة كليًّا عن طالبات الصفّ التاسع اللاتي كانت تدرّسهن بداية العام الدراسي.

ومرَّت الأيام وهي تنتظر انتهاء إجازة أمومة زميلتها؛ لتتفاجأ بأنّها مدّدت الإجازة إلى نهاية العام الدراسي، ولم تشاهدها إلّا في الحفل الختامي الذي أقامته إدارة المدرسة لشكر المعلمات على جهودهن المبذولة طوال العام الدراسي.

فكرَّمت مديرةُ المدرسةِ نفسَها! وصافحَت المساعدة، وعناقتها، ثم قدّمت لها المساعدةُ هديةً قيّمة، وتناولت هي الأخرى هدية مشابهة قدمتها للمساعدة! ورغم التباس الأمر على المعلمات إلّا أنّ التصفيق كان مستمرا، ولم يتوقف أمام حركة يد الأخصائية للمعلمات وهي تطالبهن بالتفاعل مع مظاهر الاحتفاء!

ثم كّرمت المديرةُ ثلاث معلمات متميّزات! إحداهن صديقتها التي تكرّمها كلّ عام - كما سمعت من زميلاتها- والثانية استطاعت أنْ تجمع تبرعات للمدرسة عجزَت هي عن جمعها!

والثالثة شقيقتها العائدة من إجازة الأمومة كأحسن معلمة لغة عربية في المدرسة!

كما كرّمت عاملة، متجاهلة الأخرى، وأقسمت العاملة بأنّ هديتها ليست سوى بخور كريه الرائحة! بينما حصلت صديقات المديرة على خواتم ذهبية، وحصلت شقيقتها على باقة ورد، وعطر، ومبلغ من المال وُضِع في بطاقة زرقاء اللون؛ هدية للمولود الصغير! جمعته المديرة من المعلمات بعد أنْ وضعت قائمة بأسماء المعلمات المشاركات في دفع المبلغ! وكانت تضع أمام كل من تدفع علامة صح! كوثيقة إثبات، فالسنوات القادمة طويلة، وهذه المناسبات البشرية، كالزواج، والولادة، والانتقال إلى منزل جديد، مناسبات دورية مستمرة قابلة للتوثيق، والتجديد، والتفاعل!

بينما حصلت هي وبقية المعلمات على علب كرتون مستطيلة ومغلّفة باللون الفسفوري، وهزّت بعضهن الكرتون لتعرف ما بداخله! بينما سارعت الأخرى لتمزيق الغلاف رغبة في معرفة ما بداخل الكرتون؛ لتنطلق ضحكة مدوّية غطّت على تعليمات المديرة بفتح الهدايا في المنزل!

فشعرت المديرة بالإحراج، لذلك سرّبت قصّة كفاحها في إقناع رئيسة مجلس الأمّهات بالمساهمة في دفع ثمن الهدايا، وجمع تبرعات تتلاءم مع الفعالية، وقوّة الحدث!

رغم ذلك حافظت على ابتسامتها الصاخبة التي طَغَت على عدسة كاميرات التصوير، لكنّ الكاميرات التي كانت تلتقط مشاهد التكريم، وحجم علب الهدايا لا تمتلك أشّعة سينية تخترق الهدايا المغلّفة، لتكشف عن محتواها!

على الأٌقل حتّى تساعد المعلمات في اختيار ما يرغبن من أوانٍ منزلية، فمن لا ترغب بالصحون تأخذ الفناجين، ومن لديها الكثير من أباريق الشاي تستبدلها بدلّة قهوة، أو كؤوس العصير!

لذلك؛ لم تغادر الحفل قبل أن تسأل المديرة:

-        لماذا لا تستبدلين الصحون بشهادات التقدير؟

فقالت لها المديرة بأنّ المنطق يقول بأّنّ الأواني المنزلية تصلح للاستخدام، فإذا شعرتِ بالجوع، هل ستغرفين الطعام في صحن؟ أو ستأكلين على شهادة التقدير؟!

كانت تلك رؤيتها في الحكم على قيمةِ الأشياء، وربّما كانت مقتنعة بما تقول، فهي المديرة التي منَعت توزيع حبر الأقلام المجاني، وأعطت كلّ معلمة زجاجة واحدة فقط، وكوّمت بقية العلب في المخزن حتّى جفّت؛ لأنّها فشلت في الحصول على مكتبة تقبل شراء العهدة!

كما رفضت توزيع أوراق الطباعة؛ فتلفت الأوراق بسبب الرِمّة التي التهمت الأكوام المركونة في المخزن المبني من الخشب!

وهي نفس المديرة التي أعلنت النفير في المعلمات، وعلّقت لوحة ورقية طُبِعَ عليها: تبرعات العيد للطالبات المعسرات.

وأخذت تلاحقُ المعلمات لتحثّهن على الشراء، وبعد انتهاء الفعالية الخيرية، أحضرت قريبها صاحب أحد محلّات الديكور، وطلبت منه تزيين ممرات المدرسة بإطارات خشبية، وفي كلّ إطار باقة من الورد الصناعي!

ولم يمرّ العام إلّا والأُطُر مهشّمة متكسّرة، والورود متناثرة على الأرض!

ولم تحصل المعسرات على أيّ مبلغ مالي، لأنّه وصلها – كما زعمت- أنّ أحد رجال الأعمال في المدينة تبرع لجميع الأسر المعسرة! وبما أنّ الطالبات من هذه الأسر؛ فلا بدّ أنّهن استفدن من التبرع المزعوم!

وهي نفس المديرة التي عاقبت طالبة فقدت كتاب التربية الإسلامية، وقالت لها لن أعطيكِ كتابًا إلّا إذا دفعتِ خمسة ريالات!

فبكَت الطالبة خوفًا من غَضَب ِوليّ أمرها، وانتهى المطاف بتبرع إحدى المعلمات حتّى تكفّ لسانها عن الطالبة!

وليتها توقّفت عند هذا الحد، بل لم يمر أسبوع حتى أمرَت العمال بإخراج جميع الكتب من المخزن - ومنها كتب التربية الإسلامية- وطلبت من العمال رميها في الساحة الخلفية قرب برميل المهملات!!

تأمّلت الصحون من جديد، ثم وضعتها في سلّة المهملات... ولم يعد يهمّها الشعور بأنّ تعب السنوات الماضية تمّ اختصاره في صحون زجاجية رخيصة، دفعَت ثمنه إحدى الأمّهات التي ربما قاتلت زوجها لتحصل على المبلغ إرضاءً للمديرة!

تعليق عبر الفيس بوك