الانحلال الأخلاقي في دول الغرب منحة دول الشرق القادمة

 

د. يحيى بن ربيع النهدي *

ما شدَّني لكتابة هذا المقال ما نعيشه هذه الأيام من دعوة غير مسبوقة للانحلال الأخلاقي بأشكاله المختلفة، كالمثلية والشذوذ وغيرها من الممارسات البذيئة المخالفة للفطرة، ومحاولة خلق ما يُسمى بـ"مجتمع الميم" بالترويج لهذه الممارسات؛ لتكون حرية شخصية لا خروجًا عن الفطرة، مع دعم غير محدود ومساندة من بعض حكومات دول الغرب، إلى أن وصلت بعض هذه الدول -بدعوى القضاء على التمييز- إلى عدم السماح باستخدام كلمة "الأب" و"الأم" في المدارس (مرصد الأزهر لمكافحة التطرف)، وقد تزامن ذلك مع معايشتي حالة واقعية تشرح معاناة العوائل المسلمة المهاجرة إلى دول أوروبا جرّاء هذه الممارسات الفاسدة؛ فقد تواصل معي صديق من جنسية عربية هاجر مع عائلته إلى إحدى هذه الدول الداعمة للمثلية، التي أصبحت الثقافة الجنسية جزءًا لا يتجزَّأ من مناهجها الدراسية؛ ليوضح لي أنه يبيت النية للهروب من هذا البلد والقدوم إلى موطن عربي مُسلم، مختارا سلطنة عمان لتكون وجهته القادمة. وقد حكى لي الفظائع الأخلاقية المتفشية في مجتمع هذا البلد التي بسببها قرر الهجرة، وممَّا ذكره لي أنَّه يتم تدريس الطلاب مادة السباحة مختلطة بين الجنسين وهم شبه عراة، وغيرها من القذارات التي لا يسمح المقام بذكرها.

ولن أتناول الحديث عن هذه الظواهر المقيتة المخالفة للفطرة من الجانب التحذيري أو إظهار العواقب الوخيمة لها؛ فقد سبقني في ذلك كثر -جزاهم الله خيرا كثيرا- مِمَّن أسهمت أقلامهم الخيرة في التوعية من نوايا دعاة الشر فيما يدعون إليه من هدم للقيم وتحطيم الأسر والقضاء على المجتمعات؛ فأصبح الناس- إلى حد كبير- على وعي تام بما يحدث، بل سأتناوله من جانب اقتصادي حينما أعرج بالنظر في إمكانية الاستفادة من هؤلاء -أصحاب الهجرات العكسية- كون منهم مَن هو صاحب مهنة أو رجل له في الأعمال وإقامة الشركات الباع الطويل أو فيهم الطبيب الحاذق أو العالم والباحث، على أن يكون الهدف الأسمى لاستقبال من هاجر بدينه وعرضه هو الأخوة في الدين، وبعد ذلك تأتي بقية الأهداف، ومنها الاقتصادية التي هي محور هذا المقال.

كما يقال: "دوام الحال من المحال"، فاليوم، وبعد قرون طويلة وأجيال تعاقبت من المهاجرين المسلمين إلى أوروبا؛ عادت عليهم الأيام بمتاعب ربما هي أصعب عن تلك التي كانت السبب في هجرتهم، فهذه المرة المتاعب والتحديات جلّها معنوية ونفسية أكثر مما هي مادية أو اقتصادية، فمنها ما يتعارض مع قيم هؤلاء المهاجرين وأخلاقهم، وأخرى لها علاقة بالمعتقدات والأديان، فالانسلاخ من الأخلاق والدين، والمبالغة في تحرير المرأة، ودعم الشذوذ والتحول الجنسي والمثلية، وابتكار ما يسمى ب "LGBTI+" الذي يترجم إلى "المثليات والمثليين، ومزدوجي الميل الجنسي، ومغايري الهوية الجنسانية، وحاملي صفات الجنسين" (مسرد المصطلحات: https://www.unfe.org/ar/definitions/)، والذي يشير كذلك إلى إعطاء التحول الجنسي مرونة بإضافة رمز "+" على هذا المصطلح؛ لترك المجال مفتوحًا في حال مجيء أحدهم بطريقة جديدة للمثلية أو أراد آخر العودة إلى ما كان عليه قبل التحول، وبذلك فالتحول لن يكون "حتميًّا" وإنما "مرنًا"، وهذا فيه الكثير من الإغراء من منطلق الفضول؛ فالإنسان بطبعه فضوليٌّ في تجربة الجديد. يقابل ذلك توجه حكومات بعض دول الغرب إلى تضمين مناهجها الدراسية- في المراحل الأولى من الدراسة- مادة "التربية الجنسية" كمادة أساسية؛ بهدف غرس مفهوم المثلية والتحول الجنسي لدى الناشئة، وتشجيعهم على هذا التوجه، وأنه حق مشروع يضمنه القانون. كل ذلك قد حلَّ على رؤوس العوائل المسلمة المهاجرة إلى هذه البلدان كالصاعقة، والوضع أصبح مؤرِّقًا لكل أب وأم مسلمين؛ خوفا من تأثر أبنائهم بموجة الانحطاط الأخلاقي هذه، وكثير منهم مَن رفض هذا الأمر وعمد إلى إبعاد أبنائه من هذه المدارس، وفضَّل عدم إلحاقهم بها، ومَن أُجبر على ذلك منهم فضل الهروب بهم إلى أوطانٍ مسلمةٍ تضمن لهم تربية صالحة أساسها الدين.

ورجوعا إلى حالة الصديق -الذي ذُكِر آنفا- الهارب بدينه وقيمه، فهو رجل أعمال ثري ويمتلك شركات، فبالرغم من أنَّ هجرته العكسية هذه لم يكن هدفها مضاعفة الثروات أو الحصول على فرص استثمارية أفضل، وإنما في الأصل هجرة أساسها الانتصار للدين والأخلاق والقيم، إلَّا أنَّه- بلا شك– المحافظة على هذه الثروة وإيجاد بيئة مناسبة يمكنه نقل ممتلكاته وشركاته إليها هو أمر آخر، وأحد المقومات التي يبحث عنها في البلد الذي يفكر الاستقرار فيه؛ حتى يضمن مصدر عيش له ولعائلته. وعلى شاكلته كثر، وبذلك فهم مصدر كبير لدعم الاقتصاد، وعلى الحكومات دراسة إمكانية توفير وعاء آمن؛ لتحويل أصولهم واستقرار أعمالهم.

إضافة إلى هذه الفئة ممن يفكرون في هجرة عكسية، هناك نوابغ وعلماء في مختلف المجالات، وأطباء متمرِّسون، وأصحاب مهن لهم نفس التوجه بترك مجتمعات الرذيلة والفساد، ففي العراق مثلا، وعلى حسب تصريح د. حسنين شبر -نائب نقيب أطباء العراق- لـ RT الذي كشف عن أسباب ازدياد عودة الأطباء العراقيين المهاجرين إلى بلدهم، التي جاء في مقدمتها الانحلال الأخلاقي في مجتمعات الغرب قائلا: "أما السبب الأكثر والأبرز الذي يدفعهم للعودة، فهو القلق على عوائلهم في تربية أبنائهم، والمحافظة على قيمهم مع محاولة فرض معايير المثلية".

هؤلاء وأمثالهم -من أصحاب المهن- سيكونون ثروة كبيرة للدول التي سوف تحتضنهم، ومؤخرا قامت كثيرٌ من الدول بإغراء الفئات المنتجة المهاجرة للاستقرار فيها بتقديم امتيازات كبيرة، فعلى سبيل المثال أطلقت دولة الإمارات العربية المتحدة منظومة جديدة للإقامات تشمل "الإقامة الذهبية" الممنوحة للعلماء، والباحثين، والموهوبين، وأصحاب رؤوس الأموال، وأصحاب الخبرات المهنية في الطب والهندسة وتكنولوجيا المعلومات، وشملت هذه المبادرة كذلك المستثمرين في القطاع العقاري، ورواد الأعمال، والطلبة الأوائل في أفضل 100 جامعة على مستوى العالم، و"الإقامة الخضراء للعامل المهاري"، و"الإقامة الخضراء للعامل الحر"، وأخيرا "الإقامة الخضراء للمستثمر والشريك"، وكلها تقدم حزماً كبيرة ومزايا تنافسية لهذه الفئات التي -بلا شك- سوف تسهم بشكل كبير في دعم اقتصاد الدولة (سكاي نيوز عربية - أبوظبي). تركيا هي الدولة الأخرى التي خططت لاستقطاب العلماء والباحثين والمهرة، فعلى سبيل المثال أطلقت حكومة تركيا عام 2018 برنامج "الباحثين الدوليين الرائدين 2232" الذي يوفر حوافز مالية مغرية للعلماء البارزين على مستوى العالم؛ لمواصلة أبحاثهم في تركيا. وعلى حسب التقديرات، فقد تقدم عدد يصل إلى 243 عالما للالتحاق بهذا البرنامج (الرابطة الدولية للخبراء والمحللين السياسيين - إنترريجونال للتحليلات الإستراتيجية 2022).

وكما يلاحظ، ففي الوضع الطبيعي الذي يكون فيه المهاجر مستقرًا في البلد الذي هاجر إليه، يمارس مهنته بكلِّ حبٍ وتفانٍ، تقوم هذه الدول وغيرها بتقديم التسهيلات له وإغرائه؛ للاستفادة من خبراته، فيا ترى كيف تفكر حكومات هذه الدول عندما يكون الطرف الآخر "الماهر" هو من يبحث عن وطن للجوء إليه بعد أن أصبح البلد الذي هاجر إليه ليس هو المكان المناسب له ولعائلته؟! فبلا شك، سوف تُفرش له الورود ويُستقبل بالأحضان، وتكون هذه الدول عونًا له في أزمته، آملة منه أن يكون لها عونًا في مستقبل اقتصادها ونموه. وعلى المدى البعيد ستكون هناك هجرة بأعداد مهولة من هؤلاء المغتربين المهرة إلى المجتمعات المسلمة. ومن وجهة نظري، فإنَّ الدولة التي تمسك بزمام المبادرة بفتح أبوابها لهم، ستكون هي المقصد الأول لهذه الفئة.

وختامًا.. فإنَّني أودُّ التوضيح بأنَّ مقالي هذا لا يدعو إلى النظر إلى هؤلاء -أصحاب الهجرات العكسية- من منظور اقتصادي صرف، وإنَّما لا بدَّ أن يكون المنظور الإنساني هو الأهم، وعليه، فإنَّ على الدول المسلمة أن تفتح أبوابها للقادمين إليها، الهاربين بدينهم وقيمهم، بغض النظر عن مستوياتهم المادية ووضعهم الاقتصادي، وأن يكون لأصحاب الثروات والأعمال والمهن منهم بيئة مشجعة ومحفزة؛ لتكون المصلحة مشتركة. ولنا في استقبال أنصار المدينة المنورة إخوانهم المهاجرين خير مثل، فكانت الأخوة ونصرة الدين وراء مشاركة الأنصار حالهم ومالهم مع إخوانهم المهاجرين، وقد أثنى الله عليهم في قوله تعالى: "وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (سورة الحشر: 9).

 

* أستاذ مساعد بكلية الزهراء للبنات

تعليق عبر الفيس بوك