إعادة تشكيل النظام المالي العالمي

"قمة باريس" تضع أولى لبنات النظام المالي العالمي الجديد

أزمات الديون في الدول النامية تُنذر بكارثة عالمية غير مسبوقة

الازدهار الاقتصادي العالمي لن يتحقق في ظل الهيمنة المُطلقة للدولار

حاتم الطائي

أحداثٌ مُتسارعةٌ وتطورات غير مسبوقة تُسيطر على المشهد العالمي خلال الشهور الماضية، حروب ونزاعات مُسلحة في العديد من المواقع المُلتهبة حول العالم، مُتغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية تُعيد رسم ملامح هذا العالم الذي نعيش فيه، فيما يبدو أنَّه مخاض عسير لنظام عالمي جديد، ليس فقط على المستوى السياسي، من خلال أفول نجم قوى عُظمى كانت تُهيمن على القرار الدولي، أو إعادة ضبط ميزان هذه القوى وغيرها في العالم؛ بل إنَّ الأمر يشمل كذلك المستوى الاقتصادي، والمُرتبط في جوهره بالتطورات السياسية.

وخلال اليومين الماضيين، شهدنا ما يُمكن اعتباره اللبنة الأولى لنظام مالي واقتصادي عالمي جديد، خلفًا للنظام القائم حاليًا والذي تشكّل في أعقاب مُعاهدة بريتون وودز في منتصف أربعينيات القرن الماضي. فقد احتضنت العاصمة الفرنسية باريس قمة "ميثاق التمويل العالمي الجديد"، وسط حضور دولي ضمَّ 100 رئيس دولة وحكومة، ورؤساء بنوك تنمية، فضلًا عن 120 منظمة غير حكومية، و40 منظمة دولية. هذا الحشد الغفير التقى في باريس بهدف التحاور والتباحث حول إعداد ميثاق دولي جديد للتمويل والتنمية الاقتصادية القائمة على مُحاربة الفقر ومُواجهة التغير المناخي وحماية الطبيعة. ويقود هذه التحركات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ذلك الشاب الطامح في وضع بصمته الرئاسية الخاصة وقيادة أوروبا المُثخنة بالأوجاع الاقتصادية، في أعقاب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وكذلك تداعيات الحرب في أوكرانيا.

ما رشح من مداولات هذه القمة يؤكد أنَّ العالم بدأ يسلك طريقه نحو تأسيس نظام مالي جديد، يرتكز على قواعد تضمن مزيدًا من العدالة والتضامن مع الدول الفقيرة، من منطلق أن التحديات العالمية لا تواجه دولًا بعينها دون أخرى؛ بل إنَّ الكوارث تحلّ بالجميع. ولا شك أن تطورات الأحداث في أوكرانيا والتحديات الاقتصادية الهائلة التي تواجه الغرب- لا سيما الولايات المتحدة التي ما زالت تئن تحت تأثير التضخم المرتفع ومصاعب النمو الاقتصادي- دفعت جميع الأطراف إلى إعادة النظر في المنظومة المالية العالمية القائمة، والتي أثبتت إخفاقاتها مرارًا، واكتوت هذه الدول بنيرانها، فقد تفاقم الفقر وازدادت الصراعات، وانكمشت الاقتصادات، وغرس الكساد براثنه في مفاصل الدول، والآن الجميع يُواجه خطر الركود الطويل؛ الأمر الذي يستلزم من الفاعلين في هذا العالم الاتفاق على إرساء أرضية جديدة للنظام المالي العالمي.

وعلى الرغم من أنَّ "قمة باريس" لم تسفر عن قرارات فعلية، أو تخرج بتعهدات واضحة تعكس ما كانت ترمي إليه، إلّا أنَّ المفاوضات حول ديون الدول الفقيرة وكيفية مساعدة الدول على تحقيق معدلات نمو، ليس عن طريق القروض مرتفعة الفائدة؛ بل من خلال منح التمويل الخاص، تُبشِّر بأنَّ قطار النظام المالي الجديد، قد انطلق من محطته الأولى، وحتمًا سيصل إلى جميع مراحله ومحطاته.

وعندما نُلقي نظرة سريعة على جدول أعمال هذه القمة، نجد أنها ركزت على 5 قضايا محورية، أولًا: إصلاح بنوك التنمية مُتعددة الأطراف، من خلال وضع ضوابط جديدة لجهود التنمية الاقتصادية. ثانيًا: حل أزمة الديون في الدول النامية، والتي تضاعفت إلى نحو 9 آلاف مليار دولار، ومن المتوقع أن تحتاج هذه الدول إلى حوالي 2.5 تريليون دولار خلال السنوات الخمسة المقبلة، وهو ما يُحتّم ضرورة إعادة هيكلة هذه الديون على نحوٍ يضمن استدامة المالية العامة للدول النامية وتفادي إسقاطها في بئر الديون الذي لا قرار له. ثالثًا: تمويل التكنولوجيات الخضراء والتنمية المستدامة، وهذه القضية محور اهتمام كبير في العالم، خاصة في ظل تبعات الاحتباس الحراري وتضرر كل دول العالم منه. رابعًا: فرض ضرائب دولية جديدة وأدوات تمويل مُبتَكَر، على سبيل المثال تُطالب بعض الدول بفرض ضرائب على الشحن البحري، لا سيما على الولايات المتحدة والصين، أكبر دولتين اعتمادًا على الشحن البحري. خامسًا: دعم القطاع الخاص للمشاركة في التنمية في البلدان منخفضة الدخل، وهذه قضية تؤرق مُعظم الاقتصادات في الدول منخفضة الدخل؛ حيث لا تستطيع الحكومات توفير التمويل اللازم للقطاع الخاص للقيام بدوره في التنمية، نتيجة لاختلالات المالية العامة وتفاقم العجز الجاري، والذي قد يتصادف مع عجز تجاري بين الصادرات والواردات، أو ربما حتى عجز في ميزان المدفوعات الأكثر شمولية.

لكننا نطرح السؤال الذي ربما يدور في أذهان الكثيرين، وهو: هل أوروبا- وتحديدًا فرنسا- تتحلى بالجدية الكافية من أجل إرساء نظام مالي عالمي جديد؟

الإجابة هنا: نعم، بدرجة كبيرة، فالدول الأوروبية عانت كثيرًا من النظام العالمي الذي تلى معاهدة "بريتون وودز"، والتي من أبرز سلبياتها اختيار الدولار الأمريكي ليكون عملة الاحتياطي الأولى في العالم، والعملة الأكثر استخدامًا في التبادلات التجارية. لا شك أنَّ الأمر أكبر بكثير من "حرب عملات"، كما قد يتصوره البعض، إذ إنه يُشير بوضوح إلى الخطأ الاستراتيجي الذي وقع فيه العالم في أربعينيات القرن الماضي، لأنه ومنذ ذلك الحين ينطبق المثل الشهير "إذا عطست أمريكا، أصيب العالم بالزكام"، وظل الاقتصاد العالمي مرهوناً بتطورات الوضع الاقتصادي والمالي في الولايات المتحدة، حتى بعد أن توحّدت معظم الدول الأوروبية في منظومة العملة الموحدة "يورو"، لم تتمكن من الانعتاق من شرنقة الدولار الخانقة.

الآن الباب مفتوح على مصراعيه لاستبدال هذا النظام الذي عفا عليه الزمن، فقد بدأت عدة دول تتبادل تجاريًا بالعملات الوطنية عوضًا عن الدولار الأمريكي، وتبحث دول منظمة "بريكس" إطلاق عملة جديدة تُنهي الهيمنة التاريخية للدولار على التجارة الدولية. الأهم من ذلك كله، عجز الولايات المتحدة عن اتخاذ أي إجراء مُضاد حتى الآن، فيما يبدو أنه استسلام ضمني لتراجع هيمنتها لحساب قوى عالمية أخرى، والمُفاجأة أنها قوى غير غربية، بل قادمة من أقصى الشرق.

ويبقى القول.. إنَّ بناء نظام مالي عالمي جديد لم يعُد خيارًا؛ بل حتيمة استراتيجية تفرضها المتغيرات الدولية من حولنا، فالدولار لم يعد العملة الآمنة التي يمكن الاعتماد عليها لتحقيق نمو حقيقي، علاوة على أنَّ أزمات الديون التي أثقلت كاهل الدول النامية والفقيرة تُنذر بعواقب وخيمة على المنظومة العالمية، ما لم يُتدارك الأمر وتُشطب هذه الديون، لتبدأ مرحلة جديدة قوامها التنمية ومحاربة الفقر والبطالة، كي ينعم عالمنا بالرخاء والاستقرار.