ماجد المرهون
نميلُ كُلنا إلى التنظيم ونُفضله في كل شيء تقريبًا وهو عمومًا أمر حسن، ولأهمية ذلك ظهر مايسمى بعلم إدارة الوقت الذي يتأصل مفهومه في تحقيق الأهداف بإستثماره الإستثمار الأمثل والدقيق، وهذا ماحدثنا به خبراءه وأهميته في حياتنا العصرية الحديثة ذات التعقيد الواضح في تشارك المصالح، وقد يجد الكثير من الناس أنفسهم في وتيرةٍ متشابهةٍ مع مرحلة من مراحل ذلك التنظيم الصارم ليصبح نظام اليوم نسخة من الأمس والغد نسخة من اليوم.
يستمر التناسخ في تغوله لتتحول أيام الأسبوع كلها نسخة نمطية مكررة من بعضها وقد لا يحدث ذلك في صورةٍ طبق الأصل مع الحياة القروية عندما كنا نتحدث بالأمس القريب عن نجاتنا من الوقوع في الحياة المدنية القاسية ورتابة تشابهها من حيث الأنشطة والأعمال وطالت الحركات والأفعال والكلمات التي وصلت إلى أقصى حدود التكرار، ولكنه اليوم بات أمرًا واقعًا يحياه معظمنا فيما يعرف بـ"الروتين" وهي كلمة مُعرَّبة من أصل فرنسي، ومن الطبيعي أن يُدخِل مواصلة ذلك الروتين المرء في سلسلة رتيبةٍ تصل به إلى الملل وربما السأم أحيانًا من بعض التصرفات بما فيها الشخصية مع بعض الناس من ذوي الميزان الحسي الإدراكي المختل والتي قد تفضي إلى الكآبة على المدى الطويل، كما أن الخروج من تلك الدوامة ليس بالأمر السهل بعد أن إستحكمت حلقاتها على الذهن وما أنتجتهُ من أفكار مخيفةٍ كخسارة منفعة أو فقدان مصلحةٍ أهمها قنوات التواصل والوقت ذي الإرتباط الوثيق بكل شيء.
هناك جملةٌ من الأفعال الجسدية التي يمكن أن يقوم بها من وجد نفسه محاصرًا برتابة التكرار وملل الروتين كالسفر والرياضة وممارسة الهوايات وتغيير المكان وموقع العمل وحتى موقع الأثاث في المنزل وإن تطلب الأمر تغيير الأشخاص والإبتعاد بين الحين والآخر عن مواقع التواصل الإجتماعي، بمعنى فك الإرتباط بنظام الحياة المعتاد ومجافاة مايجلب السلبية والتعاسة قدر المستطاع، كما توجد بعض المشاعر المرتبطة بفكرة قادمة في المستقبل القريب من شأنها كسر حاجز الروتين وهي غالبًا ما تكون إجبارية أو لا إرادية أو غير معد لها سلفًا مثل عطلة نهاية الأسبوع والإجازات الرسمية وبعض المناسبات الدينية والوطنية والطارئة كإنقطاع التيار الكهربائي في العمل أو إنقطاع خطوط أجهزة الحاسب الآلي مع ماينجم عن ذلك من تعطيل وربما خسائر، إلا انها تقطع طريق قافلة الأنشطة المتكررة وهو كسر آخر للروتين قد يفرز لدى البعض نوع من الراحة النفسية كغنائم مؤقتة ليست في الحسبان.
تتغير ظروف المجتمع مع كل جيلٍ تغيرًا شبه كاملٍ بسبب تغير نمط الحياة المصاحب للتطور التقني والميكانيكي والثقافي مع بقاء المبادئ الأساسية كالعمل والنقل والسكن مع مدخلاتٍ كبيرة في أساليب وآليات التواصل، وبات من الضرورة بمكان مواكبة تلك المتغيرات ومتابعة تطوراتها وتحديثاتها حتى لا تطرأ علينا أميةٍ تقنية جديدة تختلف عن أمية القراءة والكتابة القديمة، لنبقى في إطار الإلمام بها على أقل تقدير في ظل تطورها المفرط.
لكل شيء ضرر إذا ما أسيء استخدامه، ومن الملحوظ مؤخرًا نشوء صحوة واعية بين أفراد المجتمع للحد أو التخفيف من أضرار سوء استخدام وسائل التواصل الإجتماعي وانعكاساتها على الفرد والأسرة والمجتمع إذ باتت من ضمن الروتين اليومي إن لم يكن أكثره أهميه، وبما أنها ثورة تقنية عالمية متعددة الأبعاد فمن البديهي أن تنتج انواعًا من التخلف التقني والأمية الإلكترونية الحديثة؛ إذ إن الكل ليس مواكبًا ومتابعًا ولذلك يقع بعض الناس فريسةً في براثن التصيد الإلكتروني من نصب وإحتيال وتجسس وإبتزاز وقد نلتمس العذر لمن وقع في شراك تلك المصائد مع أن العذر بالجهل غير مستحب إلا أن لكل حالة ظروفها ولا يمكننا الحكم على هذا الجانب حكمًا عامًا.
لقد كانت البداية جميلة وكذلك تفعل كل البدايات مع تواضعها، وكانت سعادتنا بالغةً مع ظهور برامج التواصل الإجتماعي إ؛ذ لم يدر بخَلد أيًا مِنَّا حتمية الإزعاج والملل في يومٍ من الأيام، وكم كانت تُفرحنا الرسالة الخاصة أو حسب ما أعتقدنا في ذلك الوقت القديم نسبيًا بالقياس مع تسارع تطور وتقدم التقنيات والمعلومات، إذ لم تزل الرسالة تحمل المفهوم القديم للرسائل وأن منشئها قد بذل فيها جهده الفكري وربما الأدبي والشاعري ولو قليلًا، ثم إنضممنا إلى مجموعات التواصل منذ ظهورها قبل 12 عامًا تقريبًا وفي أغلب الاحيان بدون دعوةٍ أو خيارٍ للقبول والرفض، ولكن الموافقة كانت ردة الفعل الطبيعية- آنذاك- حبًا في التجربة الجديدة، ولن أطيل في موضوع الأعضاء غير المعروفين أو المتعارفين ولا المضافين لاحقا والمغادرين ولا الأهداف ونوعية المشاركات وغيرها مع التأكيد هنا على ازدياد الوعي العام وتفاعل الجهات القانونية وهو نوع من أنواع المواكبة والتطور، وتمضي التحديثات قُدمًا في طريق تضخم عدد المستخدمين دون كلل أو ملل حتى ظهور مايسمى بالرسائل الجماعية على مستوى الأفراد والمجموعات فضلًا عن التطبيقات الطفيلية المُتسلقة والتي تطورت على حساب غيرها بغرض توسيع قاعدة بياناتها بآلية شبكية أو هرمية من خلال أرقام الهواتف وأسماء أصحابها وكشفها مجانًا للجميع وما صحب ذلك من تبعات.
يقوم أحدهم بإنشاء رسالته الجماعية مضيفًا إليها كل الارقام المسجلة لديه في جهازه وبدون تمييز أو تخصيص، وقد يصل عددها إلى المئات ثم يبدأ في بث رسالته الصباحية المنقولة دون أدنى جهد فكري ويقول: "صباح الخير" ممارسًا هذا الدور بصفة روتينية مستمرة، فيرد عليه البعض التحية الصباحية ومع إعتقاده بأهمية مايقوم به من مواكبةٍ لعالم التقنية الحديثة وإعجابه بفعله يُرسل تطويرًا جديدًا وهو "مساء الخير" فيرد عليه عدد أقل من العدد الصباحي، ويستمر حال مسلسل التطوير لديه ليطال كل أيام الأسبوع ويوم الجمعة مع تناقص عدد الردود ويستمر كذلك مع كل مناسبة وطنية وإجتماعية وإسلامية ثم النظر بعين الفاحص الخبير إلى مايمكن إدخاله من مناسباتٍ اجنبية تخص شرائع أخرى ليقدم لمجموعته ومتابعية روتينًا إضافيًا من الملل هم في أشد الحاجة لكسره ولكنهم لازالوا يراعون عوامل اللباقة الشخصية واللياقة الأدبية ويتجنبون كسر الخواطر.
إن أكثر ما يدعو للغرابة هو الاصرار الحثيث والدؤوب لدى "الحالمين الروتينيين"- إذا جاز التعبير- على رسائل الصباح والجمعة التي تكاد لا تنقطع على مدار العام وما أن نفتح الهاتف حتى تباغتنا رسالة الملل كالقضاء الذي لا راد له قبيل شروق الشمس والعياذ بالله، والتي تحمل في مطاويها كل ألوان الطيف والخريف والصيف، وأنواع الطيور والحشرات الفراشات والزهور، وأكواب الشاي والقهوة والعصائر والكعك والحلويات والفطائر، وتجر في أذيالها عبارات قصيرةٍ رتيبة مللنا إستمرارها وطويلةٍ سئمنا تكرارها، ومع أن مضمونها منمق وملون إلا أنها دخلت ضمن دوامة الروتينيات اليومية فأضحت مصدر إزعاج وقلق لا راحة وسكينة.
ربما يكون هذه النوع من مستخدمي التطبيقات الذكية قد دخلوا في مرحلة من مراحل التخلف التقني وهم لا يشعرون ويتطلب تنبيههم بأن العالم يسعى للتقليل من رتابة الأمور الروتينية ذات التكرار الممل، وحيث لم يعد ينفع معهم التلميح ولا التوضيح ولا يلاحظون الإشارة ولا يفهمون العبارة ولا يتنبهون بأن عدد المعجبين قد تجمد وعدد الردود وصل إلى ما دون الصفر، ويعتقدون أنهم يحسنون عملًا فإنه لا يمنعنا شيئ من الإتصال بهم ومحادثتهم بسأمنا إلا الحياء ومخافة التجريح وجبر الخواطر.
أعزائي صباح الخير مساء الخير جمعة مباركة، أحبائي عيد ميلاد سعيد، ميري كرسميس وهابي ديوالي، هل يرضيكم تفعيل الحظر على أرقام هواتفكم أو إدراجها ضمن ارقام القائمة السوداء؟! وأكاد أجزم إن حدث ذلك بأنكم ستكونون آخر من يعلم!