بحر العرب.. منشأ الأنواء المناخية

 

د. سالم عبدالله العامري

تتجه الأنظار في مثل هذا الموسم من العام باتجاه السواحل المُطلة على بحر العرب مع حلول الفترة الأولى لتكَوُّن الحالات المدارية إحدى النظم المناخية التي تتعرض لها سلطنة عُمان بشكل دائم والتي تحدث خلال الفترة (مايو- يونيو) في حين تتكَون الفترة الثانية (سبتمبر- أكتوبر)، ونظرًا للموقع الجغرافي للسلطنة الذي يقع في الركن الجنوبي الشرقي من شبه الجزيرة العربية وبسبب امتداد سواحلها على طول بحر العرب وخليج عمان تعتبر سلطنة عمان من أكثر الدول العربية تعرضا للأعاصير والعواصف المدارية على مدار 140 عامًا تقريبًا الماضية بحسب الدراسات والتقارير التي تعنى بدراسة ورصد الأحوال الجوية، فقد أشارت دراسة نشرت في مجلة Springer ، إلى أنَّ الأعاصير فوق بحر العرب أصبحت أكثر حدة في العقود الأخيرة.

تتشكل معظم هذه الأعاصير في بحر العرب والذي هو جزء من المحيط الهندي بسبب ارتفاع درجات الحرارة وتغير المناخ نتيجة الاحتباس الحراري؛ الأمر الذي يؤدي إلى ارتفاع كميات التبخر وبالتالي تعمق المنخفضات وارتفاع كميات بخار الماء في الغلاف الجوي بطبقاته المختلفة. وبحسب تقرير "IPCC" توقعت لجنة متابعة التغيُّرات المناخية في الأمم المتحدة أن معدلات الأمطار الناتجة عن عمليات النقل الحراري ستزداد خلال السنوات القادمة على سلطنة عمان وأبرزها التكونات المحلية الصيفية، والأعاصير المدارية، والمنخفضات.

وفي ظل تعرض السلطنة لمثل هذه الأنواء المناخية، تشير الدراسات إلى زيادة ملحوظة في نسبة الأعاصير والعواصف المدارية التي تتحرك نحو شرق شبه الجزيرة العربية باتجاه سواحل السلطنة خلال السنوات العشر الماضية بنسبة 1: 3 أي حوالي واحد من كل 3 عواصف تتحرك نحو شبه الجزيرة العربية، إلّا أن حوالي 48.5% من هذه الأعاصير تتبدد دون أن تصل إلى اليابسة، بينما تضرب العواصف سلطنة عُمان في المتوسط مرة كل ثلاث سنوات، معظمها بين ولايتي مصيرة وصلالة، وعادة قبل يونيو أو بعد أكتوبر.

والمتتبع لتاريخ الأنواء المناخية في بحر العرب ربما يكون قد سمع أو قرأ الكثير من القصص والحكايات التي تحكي مشاهد مأساوية حزينة ومُؤلمة على المجتمع جراء الكوارث التي خلفتها هذه الأنواء المناخية، فقد تأثرت السلطنة بالعديد من الحالات المناخية طوال تاريخها؛ حيث أورد المؤرخون العُمانيون وبعض كتب التاريخ بعض أقوى الأعاصير التي ضربت عُمان قديمًا ترتب عنها نتائج فادحة وخسائر جسيمة مادية وبشرية أدت إلى درجة طمس معالم بعض المدن والحواضر.

وفي الزمن القريب تتحدث الروايات الشعبية عن حوادث عديدة حصلت بسبب الأنواء المناخية التي تعرضت لها أجواء السلطنة أبرزها (موجة تسونامي 1945)، وحادثة غرق السفينة (سمحة 1958) وغيرها من السفن العمانية التي راح ضحيتها كثير من النواخذة والبحارة والمسافرين العمانيين، والعديد من المُسميات لهذه الأنواء، مثل ضربة (الشلّي)، و(الأحيمر)، و(اللكيذب)، و(ضربة الكوي)، (وإعصار 1977) وغيرها، بينما شهدت السنوات الأخيرة عواصف وأعاصير قوية تراوحت قوتها بين الدرجة الخامسة أو ربما الرابعة مع وصولها اليابسة أبرزها (جونو 2007)، و(مكونو 2018)، و(شاهين 2021).

واستعدادًا لمثل هذه الأنواء المناخية المتوقعة، ينبغي أن تتواكب البنى الأساسية في السلطنة مع قوة الأعاصير المدارية المحتملة، وتعزيز التوعية المجتمعية للتكيُّف مع التغيُّرات المتوقعة، كما يجب رفع مستوى الوعي والجاهزية لدى المجتمع للحذر من السيول الجارفة والصواعق وكميات الهطول والرياح الهابطة، وإيجاد أماكن مهيّأة لإيواء المتأثرين بهذه الأنواء المناخية على اختلاف أنواعها، وتوفير كافة المؤن والاحتياجات الضرورية ومتطلبات الأمن والسلامة على أعلى مواصفات الجودة والاتقان.

وفي سياق متصل، شهدت الأرصاد الجوية العمانية قفزة نوعية في مختلف المجالات لتواكب التطور السريع في الأجهزة والنظم المستخدمة في عملية التنبؤات بحالة الطقس والمناخ؛ فقد تم إنشاء عدد من المراكز المتخصصة وتطوير التنبؤات العددية العمانية، ومنها المركز الوطني للإنذار المبكر من المخاطر المتعددة، والتنسيق مع المراكز الإقليمية والدولية المعنية بالتحذيرات المبكرة من الأنواء المناخية، ومتابعة خرائط واتجاهات أي تغيرات أو ظواهر مناخية أو أنواء تتكون في البحار المحيطة بالسلطنة ومدى اقترابها من الأراضي العمانية، حيث يستلم مركز التنبؤات وعمليات الرصد صور الأقمار الاصطناعية ما بين كل ربع ساعة أو ست ساعات كأقصى تقدير من القمر الاصطناعي الأوروبي، أو الأمريكي، إضافة إلى صور من القمر الاصطناعي الصيني وغيرها.

وفي إطارالخطط المستقبلية لتطور الأرصاد الجوية، تعمل السلطنة على زيادة عدد محطات الرصد بما يتناسب وقوانين المنظمة العالمية للأرصاد الجوية والدقة الجغرافية للسلطنة، وتطوير أنظمة التنبؤات العددية العمانية (الأجهزة والبرامج) واستحداث تنبؤات موسمية وتنبؤات عددية متخصصة في التنبؤ بمسار حركة الأعاصير المدارية ببحر العرب، ولعل خدمة الإنذار المبكر التي تم تجربتها بداية من مايو الجاري عبر الهواتف النقالة لمختلف شرائح المجتمع في المناطق المستهدفة من خلال إرسال رسائل تحذيرية في زمن قياسي معين نتيجة حدوث أحداث مفاجئة غير متوقعة تستدعي تدابير فورية ما هي إلا خطوة جادة، ونوعية تنم عن تطور ملحوظ نحو توظيف التقانة والتكنولوجيا للتقليل من العواقب السلبية التي تسببها هذه الأنواء المناخية.

 وعلى نحو مماثل، يستعين علماء الظواهر الجوية بسلوك بعض الحيوانات أو الأسماك أو الزواحف أو الطيور التي تستشعر حدوث الأنواء المناخية وذلك من خلال تثبيت أجهزة استشعارية من خلالها للتنبؤ بالأحوال الجوية المتوقعة.

وبالرغم من المعاناة والألم الذي تُسببه أزمة الأنواء المناخية، إلّا أن الأُمَّة العُمانية استطاعت أن تجعل هذه الأزمة تلد الهمة في نفوس العمانيين، وتعطي دروساً للبشرية يضرب بها المثل في التعاضد، والتعاون، والتكافل، والتلاحم المجتمعي من خلال الحملات، والهبّات، وحجم التبرعات، والفرق الخيرية والتطوعية التي تهب لنجدة المتضررين سواء في شمال السلطنة أو جنوبها من قبل مختلف الأفراد والمؤسسات الحكومية والخاصة، على الرغم من تسجيل غياب ملحوظ وعتب كبير على الكثير من مؤسسات القطاع الخاص عن هذا الواجب الوطني بالرغم من إمكانياتها المادية الضخمة.

 وعلى كل حالٍ.. فقد أصبحت مثل هذه الظواهر مألوفة بالنسبة للمواطن والمقيم على أرض السلطنة، وبالتالي بات يتعايش معها، ويتعامل مع ما قد تخلفه من أضرار بحكمة، وتأنٍ، ومسؤولية، مؤمنين بقضاء الله وقدره ثم ثقتهم بقيادتهم الحكيمة، والجهات المسؤولة في الوطن التي تعمل دون كلل أو ملل على حماية الأرواح والممتلكات في مختلف ربوع الوطن.

وفي الختام نسأل الله تعالى أن يحفظ بلادنا وقائدنا وشعوبنا من كل سوء، وأن ينعم علينا بالأمن والأمان والسلامة، وأن يجعل هذا الوطن آمنًا مطمئنًا سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، إنه سميعٌ قريب.

تعليق عبر الفيس بوك