انهيار القيم عامل لسقوط الأمم (4)

 

د. قاسم بن محمد الصالحي

 

 

يتميز الإنسان على جميع المخلوقات بأنه جوهر غير مادي، ويطلق على هذا الجوهر أسماء مختلفة، بينهما فوارق دقيقة، فهو الروح، وهو النفس، وهو العقل، وهو القلب، وقد صرنا بشرا بهذا الجوهر المدرك العالم العارف وليس بجارحة من الجوارح، وهذا الجوهر هو المخاطب والمطالب والمعاتب والمعاقب، فالنوع المركب من الخير والشر، هو نحن بني آدم، قال تعالى "قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ * قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ" (البقرة: 30).

ولفظ "إنسان"، مُستخدم في القرآن الكريم ضمن سياقات تفيد الماهية أو الكينونة للآدمي لا الكينونة الأخلاقية المفردة التي يفترضها المعنى الحديث للفظ شخص‫، فالإنسان ليس مناط إنسانيته مجرد كونه منتمياً إلى فصيلة الإنس، كما أنه ليس مجرد بشر يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، وإنما الإنسانية فيه ارتقاء إلى الدرجة التي تؤهله للخلافة في الأرض واحتمال تبعات التكليف وأمانة الإنسان، لأنه المختص بالعلم والبيان والعقل والتمييز، مع ما يُلابس ذلك كله من تعرض للابتلاء بالخير والشر، وفتنة الغرور بما يحس من قوته وطاقته، وما يزدهيه من الشعور بقدْره ومكانته في الدرجة العليا من درجات التطور ومراتب الكائنات، بحيث ينسى في نشوة زهوه وكبرياء غروره، أنه المخلوق الضعيف الذي يُعبر رحلة الدنيا من عالم المجهول إلى عالم الغيب، على الجسر المفضي حتمًا إلى حفرة من تراب.

وفي هذا السياق تهمنا بالطبع سمات الإنسية، أو بالأحرى ازدواجية سماتها وتأرجحها، الداخلة في جملة خصائص- ميزة الارتقاء- من قبيل الخلافة والأمانة والعقل والبيان، تلابسها جملة خصائص مضادة- تصب في خانة السقوط- هي الابتلاء بالخير والشر، وفتنة الغرور بالقوة، والزهوّ بهذا الارتقاء إلى درجة نسيان حافة الانهيار التي يقف عليها، فكأن كل ما في كفّة الارتقاء ينعدم بما يقابله، إن لم يكن يربو عليه، في كفّة السقوط فتكون النتيجة خسرانا أصليًا ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ (العصر: 2).

كما أن آية الأمانة تتحدث عن الإنسان، النوع لا الفرد ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ (الأحزاب: 72)، وتجري وقائعها في زمن ميتافيزيقي، خارج زمن العالم أو قبله، إنها آية فريدة، من جهة، لأن معناها لم تكرره أي آية أخرى؛ ومن جهة أخرى، لأنها بقدر ما تعلن نهوض الإنسان بأعظم مهمة وأخطرها، وهي حمل الأمانة، بقدر ما تصف هذا النهوض أو صاحبه بالظلم والجهل فهل تكون "إنسانية" الإنسان شرًّا ومأساة بالمعنى الميتافيزيقي؟!

لا يُعرف ما إذا كانت مبادرة الإنسان إلى حمل الأمانة هي التي جلبت إليه المميزات التي صارت له بها الرفعة على المخلوقات؛ أم أنَّ هذه المميزات هي التي جلبت إليه الأمانة وحضّته على المبادرة إلى حملها، قد يقول قائل بأن آية الأمانة هذه تتضمن بعض معاني الذات الأخلاقية- نعني هنا حمل المسؤولية- حيث إن مفهوم الذات، على الأقل يتضمن معاني التحمل، وحيث إنَّ القرآن يسمي حامل هذه الأمانة/ المسؤولية بـ"الإنسان"، أفلا يحتمل إذن أن يكون "الإنسان" هو اللفظ الحامل لمعنى الذات الأخلاقية في القرآن؟ لقد كان يمكن ذلك، لولا المسحة الميتافيزيقية التجريدية التي تغلّف مفهوم الإنسان في هذا السياق، والتي تجعله دالا على ماهية أكثر من دلالته على ذاتية مفردة‫، فالقرآن يخاطب هنا الكائن البشري الفرد، لا الماهية الإنسانية.

ولنا أن نتساءل عما إذا كانت "السلبية" حكمًا أخلاقيا، أي حكما من أحكام القيمة "أحكام إدانة"، أم مجرد حكم من أحكام الواقع؟ مقارنةً بألفاظ تدل على مجموع البشر، مثل الناس، العباد، بني آدم، يشير لفظ "الإنسان"، ككل مفهوم ذي دلالة وما صدق، إلى كلية من الكليات ذات الوجود الذهني لا العيني؛ وعليه يرى البعض أن أوصاف العَجول والكَفور والقَنوط والمُجادل تتعلق بماهية الإنسان، أكثر من تعلقها بوجوده المتعيّن، إنها أوصاف لواقع- أكثر منها أحكامًا معيارية على هذا الواقع- صلبٌ صلابة الماهية التي بها قوام الشيء، فلا تكاد تبرحه إلا أن ينقلب موجودًا آخر! ومتى كانت هذه الأحكام وصفية لزم عنها أنها ليست أحكامًا أخلاقية؛ لأنَّ هذه الأخيرة معيارية، وليست وصفية‫.

وقد خلص البعض إلى أن لفظ "إنسان"، في القرآن، لا يشير في الكائن البشري إلى ذاته الأخلاقية، ولا إلى ذاته اللاأخلاقية، على حد سواء؛ بل اللفظ يكثفّ العوامل التي يحتمل أن تكون مفسرة أو مسؤولة عن هذه اللا أخلاقية، بعبارة أخرى؛ فإن جزءًا من آيات القرآن الكريم، المستخلصة من استعمالاته للفظ "إنسان"، تشرح لنا كيف أن طبيعة خُلُق الإنسان هي نتيجة ممكنة لطبيعة خَلْقه وخِلقته، وبسبب الخسران، الحالِّ بالإنسان أو المتربص به، يمكن أيضًا أن نرى في ثنايا هذه الآيات أمشاجًا لميتافيزيقا الشر.

لم يعد من الممكن في العصر الحديث تناول الشرّ كمشكلة في الاطار الذي يجعل الشرّ أدنى درجات الكينونة وأخسّها ادعاء مقبولًا، كما انتفت كذلك شروط إمكان مقاربته كمشكلة طبيعيَّة، بعد أن أدَّت فكرة ترويض الطبيعة إلى حصول طلاق بائن بين عالم الوقائع وعالم القيم، وطرد كلّ الاعتبارات التي لها صلة بالكمال والشرف والتناغم والمعنى والغاية من اهتمامات الفكر العلمي، كما أن ثمَّة فرق أساسي بين الضمير الأخلاقي والضمير الدّيني يتجاوز اعتبار الله مشرّعًا خلقيَّا، فالضمير الدّيني لا يكمن فقط في النظر إلى الله كأصل للأوامر الأخلاقيَّة، واعتبار خلود النفس نتيجة قصوى لاتباع هذه الأوامر؛ بل في الاعتراف بالهوَّة الفاصلة بين ما يقتضيه القانون منّا وبين إرادتنا، أي الوعي بالشرّ فينا.

لذلك، لا غرابة في أن تبدأ النظريَّة الفلسفيَّة للدّين بمشكلة الشر، وأن تخوض مغامرة الذهاب إلى ما بعد تخوم العقل، على اعتبار أنَّ الإنسان ليس مجرَّد حيوان، والعقل لم يُعط له من أجل إشباع حاجاته، وإلّا لما كان في امتلاكه له أيّ ميزة تمنحه قيمة تسمو به فوق الحيوانيَّة؛ بل وهب له من أجل غاية سامية، من أجل أن يعرف الخير في ذاته والشرّ في ذاته، ويميزهما عن الخير والشرّ الحسّيين، وهذا ما لا يمكن أن يحصل إلا بتحديد العقل المحض للقانون الخلقي الذي يتَّصف بالضرورة والكونيَّة، الأمر الذي يجعل منه قانونًا لأيّ كائن عاقل بإطلاق.

وبخضوع الإرادة لهذا القانون تكون حرَّة، لأنَّها بهذا الفعل لا تطيع إلا نفسها باعتبارها تشرّع لذاتها، سيكون الخير من هذه الزاوية هو اتفاق المشيئة الإنسانيَّة مع القانون الخلقي، والشرّ هو انتهاك هذه المشيئة لهذا القانون، حيث إنَّ الخير والشرّ مسألتان أخلاقيتان لهما صلة بالإرادة وليس بالطبيعة، وإذا قلنا عن الطبع الخيّر أو الطبع الشرّير إنَّه فطري، فهذا لا يعني أبدًا أنَّ للطبيعة الفضل على الإنسان إن كان خيّرًا، ولا أنَّها تتحمّل المسؤوليَّة إن كان شرّيرًا.

الإنسان في الحالتين معًا هو المسؤول عن طبعه خيّرًا كان أو شرّيرًا، لأنَّ الأساس الأوَّل الأقصى (النيَّة) لتبنّي المبادئ الذاتيَّة لا يمكن أن يكون إلا وحيدًا، ويهمّ استعمال الحريَّة في كلّيته، غير أنَّ هذا الأساس الأقصى نفسه إنَّما هو أمر تبنته المشيئة الحرَّة، إنَّه متجذّر في الحريَّة قبل أيّ استعمال لها في التجربة، ولا يمكن اشتقاقه من فعل زمني أوَّل، ولذلك تتحمّل المسؤوليَّة عنه.

الخير والشرّ- إذن- ضدَّان من جنس واحد، والمشيئة تختار أيَّ واحد منهما بحريَّة، تامَّة، ولا يمكن الاحتجاج بأنَّ المشيئة مقصورة على أمرها فيما يخصُّ أيَّا منهما، لأنَّها تتَّصف بميزة مخصوصة تتمثل في أنَّ أيّ حافز لا يمكن أن يدفعها إلى فعل ما، اللّهم إلا إذا، وفقط إذا، أدرجه الإنسان في مبدئه الذاتي- أي فقط إذا جعل منه قاعدة كليَّة بموجبها يريد أن يسلك- وفي هذه الحالة فقط يمكن لحافز ما، أيًّا ما يكن، أن يوجد مع التلقائيَّة المطلقة للمشيئة- مع الحريَّة- فإذا لم تتخذ المشيئة من القانون الخلقي قاعدة لسلوكها، فإنَّما لأنَّها تبنَّت حافزًا مضادًّا، وجعلت منه قاعدة لفعلها، يلزم عن ذلك أنَّه إذا كان الإنسان شرّيرًا، فإنَّ أساس هذا الشر لا يمكن أن يوجد في موضوع يحدّد المشيئة من خلال ميل ما، ولا في نزوع طبيعي، بل في قاعدة (مبدأ ذاتي) تتبنَّاها المشيئة من أجل استعمال حرّيتها.

ومهما تقهقرنا باحثين عن أساس يسند هذه القاعدة، فلن نجد إلا قاعدة تبنَّتها المشيئة، إذ لو وجدنا في أساس هذه القاعدة نزوعًا طبيعيًّا، فسيرتد استعمال الحريَّة بكامله إلى تحدُّدٍ بالأسباب الطبيعيَّة، الأمر الذي يتناقض مباشرة مع حريَّة المشيئة.

الإنسان شرّير بالطبيعة، أي أنَّه، من حيث هو نوع من الكائنات العاقلة المتناهية، واع بالقانون الخلقي كواقعة عقليَّة كونيَّة مغروزة في بنية ضميره، ومع ذلك تبنَّى الانحراف عنه (ظرفيًّا) في مبادئه الذاتيَّة، أو لنقل إنَّ ميله الحيواني والأناني يَحْمِلُه على أن يستثني نفسه منه عندما يشاء، وهذا النزوع يوجد في جميع البشر بلا استثناء، لكنَّ كليَّته هذه ليست صفة قبليَّة ضروريَّة تستنبط من مفهوم الإنسان بوجه عام، ولا هي عائدة إلى استعداد طبيعي، بل هي سمة عرضيَّة آتية من قرار حرٍّ للمشيئة بمقتضاه تتبنَّى مبادئ ذاتيَّة مخالفة للقانون، لقد التقطه الإنسان وجناه على نفسه، وبالتالي يتحمَّل المسؤولية عنه.

وكما يجيب كانط: يمكن أن نعفي أنفسنا من تقديم دليل صوري على أنَّ هذا النزوع الفاسد لا بدَّ أن يكون متجذّرًا في الإنسان، نظرًا لكثرة الأمثلة الصارخة التي تقدّمها التجربة أمام أعيننا عن الأفعال التي يقترفها البشر فالمجازر الفظيعة التي ترتكبها الشعوب البدائيَّة أثناء حروبها تشهد على تهافت أطروحة طيبة الطبيعة الإنسانيَّة في حالة الطبيعة، ورذائل حالة التمدُّن التي تسمّم العلاقات بين الأفراد- من نفاق وكراهية وكذب وغش ونكران جميل وتشفٍّ- تبطل رأي القائلين إنَّ الطبيعة البشريَّة يمكن أن تعرف على نحو أفضل بعد تفتّح استعداداتها في هذه الحالة، أمَّا العلاقات الخارجيَّة بين الأمم، فمبنيَّة على العداوة المعلنة أو الخفيَّة- حالة استعداد دائم للحرب- إلى حدّ أنَّها تجعل من فكرتي ميثاق قانوني جامع لشعوب الأرض والسلام الدائم شطحتين فكريتين تثيران السخرية، ولكن هل تكفي كثرة الأمثلة لإثبات كليَّة النزوع إلى الشرّ وتجذّره؟

نعلم أنَّ الوقائع التجريبيَّة قد تصلح أدلة على قضيَّة عامَّة، أمَّا أن تثبت مبدأ كليًّا، فلا، ثمَّ إنَّ الأمر هاهنا أعوص، ذلك أنَّ وصم إنسان ما بالشرّ، لا يكون مشروعًا إلا إذا جاز لنا أن نستنتج من الأفعال الشرّيرة التي ارتكبها وجود مبادئ ذاتيَّة شرّيرة فيه، والحال أنَّ الأفعال الشرّيرة- المضادَّة للقانون- قابلة للملاحظة بالتجربة، بينما المبادئ الذاتيَّة- أي النيَّات- ممتنعة في ذاتها على الملاحظة؛ الأمر الذي يترتَّب عنه أنَّ الحكم الذي ينصُّ على أنَّ الفاعل إنسان شرّير لا يمكن أن يؤسّس بيقين على التجربة.

لا يشك ملاحظ، مهتم أو غير مهتم بحركية المجتمعات البشرية، أن جدار الاخلاق ينشق وينهار، ويتداعى على رؤوس الغيورين على الحياة الإنسانية ونقائها، وليس الحدث بجديد، بل قديم، لكنه بدا يتسارع متهاويا في حياتنا العصرية، وذلك لان ثمار مجهودات الافساد والتدمير والتخريب قد بدت اكثر بروزا وتؤتي اكلها الخبيث، وربما سيؤول وضع المجتمعات الحاضرة لما آلت اليه الأمم التي سبقت في تجربة الانهيار والتآكل الأخلاقي؛ بل أصبحت كل المجتمعات تشم رائحة الاحتراق والاختراق الأخلاقي تهب عليها من كل حدب وصوب، والمصيبة الكبرى أن الأسباب والحلول معروفة، لكن المجتمعات البشرية مشلولة- غير قادرة على الفعل- لا تسطيع فك شفرات الحياة العصرية وترتيب خيوطها، فهناك قوة جذب خطيرة وقوية، سائرة في خط متواز مع ما وجد له الانسان، فتجد مظاهر الانهيار الأخلاقي تعيشها البيئات المجتمعية نفسها متورطة في وحلها، يصعب عليها التخلص منها، فمظهر الانهيار عمَّ على نحو كاد يخال للإنسان حقا ومعروفا، يُذاد عنه اقتصاديًا، اجتماعيًا، فكريًا، إعلاميًا، تربويًا، بشعور أو بدونه، والانسان مسؤول عن كل تهور او انهيار أخلاقي، ووحده حمل الأمانة والمطالب بالعمل في سبيل الله وابتغاء مرضاته، فالعبد منا اذا تغلبت فيه نوازع الخير على نواز الشر صار عند الله افضل من الملائكة، واذا تغلب جانب الشر على جانب الخير كان اسوا عند الله من الشياطين، فالإنسان قبضة من تراب الأرض ونفخة من روح الله عزوجل.

تعليق عبر الفيس بوك