السُفسطائيون الجدد

 

ماجد المرهون

majidalmrhoon@gmail.com

 

الإنسان كائنٌ مُتغير شكلًا ومضمونًا باستمرار وما بين 7 إلى 10 سنوات تتغير كل خلايا جسده العضوي، ويُعد هذا تغيرًا كاملًا باستثناء الخلايا النبيلة في الجهاز العصبي، وبلا شك خلال نفس الفترة سيتغير السلوك ولو قليلًا وأسلوب التفكير وربما حتى طرق التعامل والتواصل بحسب المتغيرات المحيطة والمعارف المكتسبة.

فأنا قبل 7 سنوات لست كما هو أنا الآن، وهكذا هو الحال لمعظم الناس التي تقبل بالتغيير وتتأقلم مع المتغيرات وتتفاعل معها؛ وبما أن التغيير الجسدي على المستوى الخلوي لا قدرة للإنسان على التحكم به وثني سلوكه ولا التحكم بعمليات الأيض الطبيعية ولا إعاقة نمو الشعر الأبيض والتقدم في السن والشيخوخة والموت، إلا أنَّ بمقدوره تغيير مفاهيمه ومداركه وبالتالي أساليبه وبديهيًا إلى الأفضل، لذلك يعتمد العلم الحضوري على وجود المعلوم بذاته دون استعانةٍ بطرف مساعد كالعلم بالنفس عند الشعور بالجوع والعطش والتعب، بعكس العلم التحصيلي والذي يأتي من الشيء الخارج عن الذهن حتى يصبح معلومًا ثم يدخل ضمن تشكيلة العلوم الحضورية.

وعندما تزداد الثقة بالعقل فوق مستواه المعقول وتتمعقل فكرةٌ ما تعاكس المنطق أو ماجرت عليه العادة، فإنه سيعتقد في مرحلة من مراحل تلك الثقة بأنها واقعية وطبيعية ويجب أن تُقبل وإن ثقته بتلك الفكرة قد جاوزت المفهوم النظري الذي قد يقع في الخطأ إلى المفهوم البدهي الذي يجب أن لا يقع في الخطأ، ويحصل أن لا يتنبه لذلك كثيرٌ من الناس؛ فالصواب مفهوم إنساني محبوب يعاكس كراهية وقوعه في الخطأ وإن فعل فقد يبرره بالظروف المحيطة والأسباب الخارجة عن الإرادة وغيرها من الحجج ليرفع عن نفسه الحرج ويبقى في دائرةٍ الصواب ولو على أطرافها، لكن الواعي والمتعمق في الفهم يعتمد على رؤيةٍ ذهنية بالغة الحساسية وتساعده على تَجنب الوقوع في الخطأ من خلال فهم الواقع من حوله والتعاطي معه بحسب المفهوم السائد وتصور كل الاحتمالات قبل الإقدام على القول أو الفعل مع توقع ردود الأفعال والاستعداد لها.

إنَّ من أغرب ما قاله سُقراط مع علمه الغزير وحكمته البالغة "أنه لا يعلم شيئًا" ولولا تلميذه أفلاطون لما وصلنا من علمه شيء، وتقول بيشيا عرّافة معبد ديلفي إن سقراط أحسن الحكماء؛ وبدأ التصدي إلى السفسطائيين الذين نشطوا في مرحلته على أشكال متنوعة من الدحض للحقائق وصور مختلفة من المعارضات لما كان يعتقد أنه بديهي، وكان الفارق بينهم وبين الفلسفة السُقراطية أنهم كانوا يتقاضون أجرًا، نظير تعليم حكمتهم، لكن هذا لا ينفي عن السفسطائيين العلم والبلاغة وحسن الخطابة وقوة الحجة، ولعل أكثر ما أدخلهم في مواجهة مع الفلاسفة التقليديين هو نفيهم للفعل الإنساني المبني على تعاليم الآلهة، وقدرتهم الكبيرة على المحاججة وإطالة أمد الحديث والخروج به إلى تشعباتٍ كثيرة تؤدي لزعزعة الفكرة أساسها وتحويلها بطرق ملتوية إلى صالحهم مستعينين بالظروف السائدة تحت مفهوم المصلحة العامة والتطوير، أو الدخول بالفكرة إلى طور آخر قد يضع حدًا للنقاش حولها كالتصعيد إلى المستوى الوطني أو الديني وبذلك تُعزل عن الخطأ وتعزز قابلية التصديق والاقتناع أو الخوف من الجزاء والعقاب وتتخذ بذلك نمطًا عقلانيًا عند معظم الناس.

هناك وجود حقيقي للكثير من الأمور على هامش وعينا المُدرك، وهي تصلنا من كل اتجاه تقريبًا، فمنها ما نراه وما نسمعه ومنها ما نعيه سطحيًا كونها لا تستهدف الإدراك المباشر ولكن تأثر علينا حسيًا بشكل أو آخر بحسب اهتماماتنا وأولوياتنا، فمن كان اهتمامه مثلًا بموعد الصلاة فإنه سيسعد بصوت الآذان والعكس صحيح لمن يلهيه أمر أهم من الصلاة فإن صوت الآذان يشكل قلقًا في هامش وعيه ونوعا من الإزعاج في إدراكه، وقد يحدث أحيانًا أن ينفعل البعض مع حدثٍ ما قبل إدراك وقوعه كالإنزلاق والوقوع على الأرض إذ إن ردة الفعل تأتي بعد الفعل فيعقد العقل معالجات الإدراك بالاعتماد على مجموعة الحواس والرغبات والشهوات المرتبطة بالمزاج والمكان والزمان ولن نخوض كثيرًا في مسألة إدراك الزمان والمكان حيث ستقودنا إلى جدليات هي أقرب للسفسطة التي تُفضِّل اختلاق المبررات والالتواء حول البدهيات والمعتقدات.

وأكثر ما يبعث على الغرابة هو الإنسان الذي لا يضع كل الاحتمالات وردود الأفعال نصب عينيه، فيستحسن أمرًا هو مستقبح عند عامة الناس، أو يستقبح أمرًا يستحسنه كل المجتمع في محيطه، كأصوات المآذن والمؤذنين وإقامة الصلوات تحت ذرائع وحجج ربما لم يكن مقتنعًا بها قبل 7 سنوات، عندما كان يسكن في منطقة لا يصلها صوت الآذان، أو مهاجرًا يستيقظ على صوت أجراس الكنائس، أو سائحًا لا تؤذيه أبواق المعابد التي لا يُذكر فيها اسم الله ورسوله، ثم لا يتردد ببث كل ما يُفكر به مباشرةً على منابر التواصل. وقد يقول قائلٌ إن هذه فئة قليلة لا تشكل شيئًا بالمقارنة النسبية. نعم، هذا القول صحيح، لو أن هذه الفئة اكتفت ببث شجونها في دائرة قطرها مرمى حجر كما كانت في السابق، إلّا أنها اليوم تقوم بالدعوة على منابر التواصل كالذي يقول: يا أيها الناس، وياله من خطاب عام وعظيم يستوجب السماع والانصياع وكذلك الرد عندما يتبادر طلع السفسطة الجديدة، ويبدو أن هذه الفئة لا تعير اهتمامًا لشريعتنا وشعائرنا ولا يستشعرون تعظيمها وقد أفرطوا في وهم ثقتهم بأنفسهم وطريقة تفكيرهم بالتحديث والتطوير ووصلوا إلى مرحلة صدقوا بأن ما يقولونه طبيعي جدًا وواقعي ويجب أن يُقبل، عدا ذلك فلا تناقشني في الأمر لأنه ضمن إطار حريتي الشخصية في التعبير عن رأيي، وهو بهذه الحرية قد أسقط آخر ورقة توت كانت تستر سوأته بعد أن كان مستورًا قبل تنصيب منبره الإلكتروني وبات يكابر على الأسس والضرورات وإن المكابرة على الضرورات مَرور أي جنون.

أتساءل ما مستوى الصوت الصاخب للمساجد الذي يتحدثون عنه؟ وهل يطربون في شهر رمضان إلى أصوات أخرى غير أصوات القرآن والآذان؟ وهل سينامون الساعة الثامنة ليلًا بحجة الدوام؟ وهل صوت الآذان والقرآن والصلوات يزعج المرضى أم العكس؟!

لولا وجود مواقع التواصل وممكناتها بأيدي بعض ممارسي الشغب الصوتي، لما كان لهم وجود، ولولا وجود أفلاطون لما كان لسقراط وجود!