الأزمة المُزمنة للرأسمالية

حاتم الطائي

◄ الأزمة المصرفية الجديدة تؤكد فشل النظام المالي الأمريكي

◄ الرأسمالية العالمية تتخبط في دائرة مفرغة من الأزمات المُزمنة

◄ ضرورة بناء نظام اقتصادي بديل يعتمد التشاركية والتكامل بين الدول

لم يكد الاقتصاد العالمي ينفض غبار التداعيات الكارثية لجائحة كورونا وما تبعها من تعطل في سلاسل الإمداد والتوريد والتراجع الحاد في أسعار النفط، حتى تلقى ضربة موجعة بأزمة التضخم وما تلاها من ركود عالمي فاقم من حدة ارتفاع الأسعار حول العالم، وقد أعقب ذلك قرارات متزامنة لمعظم البنوك المركزية حول العالم بزيادة أسعار الفائدة على مدى العام ونصف العام المنصرم، بقيادة بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي (البنك المركزي)، الذي لا يتوانى عن رفع الفائدة بلا هوادة، وآخرها قبل يومين بزيادة السعر بنحو 25 نقطة أساس، وفي خضم كل هذه التطورات تئن الاقتصادات العالمية تحت وطأة العديد من التحديات، ما يُفاقم معدلات الفقر والديون.

وفي الوقت الذي كان الاقتصاد العالمي يترنح بين أزماته المتتالية، قفزت إلى السطح أزمة جديدة، مصدرها القطاع المصرفي الأمريكي، في تكرار سيئ للأزمة المالية التي ضربت العالم في 2008، مع انهيار عدد من البنوك الأمريكية- وقتذاك- على رأسها بنك ليمان براذرز ومورجان ستانلي وجولدمان ساكس. الأزمة الجديدة بطلها بنك أمريكي أيضًا هو بنك سيليكون فالي، الذي انهار تمامًا إثر أزمة عنيفة تسببت في تراجع محفظة البنك التي كانت تعتمد بصورة كبيرة على الاستثمار في السندات الحكومية، لكن مع السعي المحموم للاحتياطي الفيدرالي لرفع الفائدة المصرفية، تراجع العائد على السندات كنتيجة طبيعية، ما تسبب في سلسلة تراجعات لحجم المحفظة الاستثمارية، الأمر الذي دفع المودعين لسحب ودائعهم، وفي ظل عدم قدرة البنك على الوفاء بالتزاماته أمام المودعين، انهار البنك وأفلس تمامًا. تلى ذلك انهيار بنك أمريكي آخر هو بنك "سيجنتشر"، ثم امتدت عدوى الأزمة إلى بنك فيرست ريبابلك، وبنك كريدي سويس، وقبل يومٍ واحد وصلت براثن الأزمة إلى بنك دويتشه الألماني، بعدما فقدت أسهم البنك 14% من قيمتها في بورصة فرانكفورت. وعلى الرغم من الجهود التي بُذلت على مستوى الهيئات الحكومية في أمريكا وأوروبا للحيلولة دون "تأثير الدومينو" إلا أن الأزمة يبدو أنها أسوأ مما يتوقع البعض، حيث ما زال يلوح في الأفق سيناريو أزمة مالية عالمية جديدة، وينعكس ذلك في أداء الأسواق العالمية، التي تشهد سلسلة تراجعات وتذبذبات منذ تفجر أزمة بنك سيليكون فالي.

هذه الأزمات وغيرها تؤكد حقيقة واحدة لا تقبل الشك، وهي أنَّ الرأسمالية العالمية تعيش أزمات مُزمنة لا تُبقي ولا تذر، وأن هذه الرأسمالية تفقد بريقها تدريجيًا مع كل أزمة تندلع. والوقائع تبرهن على أن النظام الرأسمالي العالمي بقيادة الولايات المتحدة يعيش حالة تخبط غير مسبوقة، فبعد أن كُنا نشهد أزمة اقتصادية أو مالية كل 30 أو 50 سنة، باتت الأزمات تتلاحق كل 5 أو 7 سنوات، وذلك مؤشر يبعث على الخطر تجاه ما يُفرزه النظام المالي العالمي من أزمات، ويؤكد الحاجة الماسة لمنظومة مالية ومصرفية واقتصادية بديلة. فكما بدأ العالم يتجه- سياسيًا- بقوة نحو نظام متعدد الأقطاب، لا مفر من التوجه نحو منظومة مالية واقتصادية بعيدة عن الهيمنة الرأسمالية الأمريكية الغربية على الاقتصاد العالمي. ولنا في الأزمة الأوكرانية خير دليل، فالعقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على روسيا، تُحقق أهدافها لأن العالم يسير على نظام مالي واقتصادي واحد ووحيد، بينما الأمر يتطلب إنشاء شبكات مصرفية ونظم اقتصادية متنوعة تتفادى النظام الراهن، الذي وصل إلى مرحلة الشيخوخة، ولم يعد قادرًا على تقديم أية بدائل ناجعة.

المنظومة الرأسمالية القائمة حاليًا تعتمد فقط على استثمارات الديون، دون إنتاج حقيقي، يعود بالنفع على الاقتصادات، والحقائق تؤكد ذلك، فأزمة الرهن العقاري في 2008 أساسها الديون، والأزمة الراهنة أساسها الديون كذلك، وهو ما يؤكد ضرورة التوجه نحو التصنيع والإنتاج بكثافة عالية، بما يضمن توفير وظائف وإنعاش الاقتصاد العالمي. ولذلك نرى في المقابل، النموذج الاقتصادي الصيني يحقق نتائج مُدهشة، فلم نقرأ على مدى العقود الخمسة الأخيرة عن انهيارات اقتصادية في الصين، نتيجة منظومتها المصرفية أو المالية، بل إن توجهها الدولي يعتمد في الأساس على التنمية، وتمويل مشاريع التنمية، وليس الإقراض لمجرد الإقراض ومن ثم فرض الوصاية على السياسات المالية والاقتصادية للدول.

وعندما ننظر إلى الاقتصاد العالمي حاليًا، يتضح جليًا أن المؤسسات الفاعلة فيه، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، تستهدف بالدرجة الأولى إسقاط الدول في بئر الديون الذي لا نهاية له، فتظل دورة الديون قائمة بلا نهاية! غير أن التوجه نحو تأسيس نظام اقتصادي عالمي يعتمد على نهج التشاركية والاستثمارات التنموية، يساعد الدول على الانعتاق من قيود الرأسمالية، التي لم تعد- في صورتها الراهنة- صالحة لتحقيق نمو اقتصادي عالمي حقيقي. فما فائدة أي نمو تقوده فقط الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية، بينما تئن مختلف دول العالم تحت نير الفقر والعوز والفاقة؟!

ولذلك على الاقتصاديين وصناع السياسات المالية حول العالم، أن يبحثوا عن نظام مالي عالمي جديد، يتجاوز أخطاء وكوارث الرأسمالية، ويستفيد من التجارب الناجحة- الصين نموذجًا- على أن يعتمد هذا النظام الجديد على تنويع سلة عملات الاحتياطي لتكون بديلة عن الدولار الأمريكي، وأن تنتهج الدول سياسة التكتلات الاقتصادية، القائمة على التكامل الاقتصادي، ولذلك نؤكد دومًا أن أمام دول الخليج فرصة ذهبية لتحقيق هذا التكامل، وتتعاظم الفرصة إذا ما ارتبط هذا التكامل بالمنطقة العربية كاملةً.

ويبقى القول.. إنَّ أي منظومة اقتصادية لا تحقق رخاء واستقرار الشعوب، لن يُكتب لها النجاح، وستظل حبيسة الطبقة المخملية المُستفيدة في جميع الأحوال، بينما الطبقات الأخرى تتجرع مرارات العوز والفقر، وعلى دول العالم الساعية نحو الأفضل أن تتعاون من أجل التخلص من براثن الرأسمالية الأمريكية، وتتجه صوب منظومة اقتصادية حرة تتكامل فيها الاقتصادات وتتعاون على التنمية والبناء.