حكايات أمي

 

هند الحمدانية

ومن مثلها.. من مثل تلك التي وهبتنا قوة الحياة، وهبتنا بساط الريح لنطير به ونعبر الحدود ونسافر عبر الزمان ولا نعرف معنىً للجدران، من مثلها؟! من مثلها تلك التي علمتنا التمرد؟! علمتنا أن نقول لا؟! علمتنا أن نكون من نريد وأن نحلم بأي شيء نريد وأن نختار قصتنا ونسردها بطريقتنا الخاصة وبأسمائنا التي نحب ومع من نحب.... من مثلها؟ من مثل أمي؟!

يقول أبو القاسم الشابي:

الأم تلثُمُ طفلَها، وتضـمُّه

حرَمٌ، سماويُّ الجمالِ، مقدَّسُ

تتألّه الأفكارُ، وهْي جوارَه

وتعودُ طاهرة ًهناكَ الأنفُسُ

حَرَمُ الحياة ِبِطُهْرِها وَحَنَانِها

هل فوقَهُ حرَمٌ أجلُّ وأقدسُ؟

عن أي الفضائل أتحدث؟ عن أي معروف وعطاء؟ وعند أي جمال وبهاء لابد لي أن أقف؟ فهي أمي... لغز الحياة الذي لم يُحَل وسحرها الذي لم يُفَك، أمي غطائي الذي لطالما دثَر عظامي وأيامي، وأوقد فيني شعلة الأحلام التي لم تزدها السنوات إلا لهيبا وحمما تدفأ روحي المتوهجة بالأحلام.

فكيف استطاعت أمنا العظيمة أن تجعلنا نبتسم دائما؟! كيف علمتنا أن نصنع واقعنا الذي نعيشه؟ كيف جعلتنا نتمرد على الظروف؟ ونرى التفاصيل التي نتوق إليها ونرحب بها؟

حكايات أمي وعالمها الواسع الممتد.. الذي كانت تسرقنا إليه كل مساء، قصص أمي العجيبة والمجنونة والغريبة التي كانت تسقيها لنا رغم أميتها ورغم محدودية صولاتها وجولاتها الدنيوية الواقعية، لكن أمي كانت عالماً آخر مليئاً بكل شيء، واسعا وعميقا جداً، كان يكبر ويصغر، كان يمتد ويتضاءل، كان غنياً بكل ما لم نره وما حلمنا به، كان عالم أمي الفريد هو حكاياتها الوفيرة التي عشنا عليها وتغذت عليها مخيلاتنا الثرية، لقد كنَّا أثرياء حقًا لأننا نحصل على الأحلام بغمضة عين والأمنيات كانت كن فتكون بعد عبارة "كان يا مكان في قديم الزمان".

يقول الروائي الإيرلندي جورج برنارد شو: "الخيال هو بداية الإبداع، إنك تتخيل ما ترغب فيه، وترغب فيما تتخيله، وأخيرا تصنع ما ترغب فيه"؛ أي إن الخيال هو الوقود الذي يشعل فيك كل طاقاتك الكامنة وقدراتك المودعة في داخلك، فيثيرها الخيال ويشحنها ثم يحركها كعجلة تدب الروح في دائرة الحياة، لكن أمي لم تكن تقرأ لجورج برنارد شو، أمي لم تكن تعلم أن الخيال وقود، لكن فطرتها العظيمة جعلتها تخلق لنا وقودنا الخاص وطاقتها المقدسة التي غيرت حياتنا في ظل حكاياتها.

حكاية الأمير المجنون.. حكاية أحمد الحداد.. حكاية مردغان.. حكاية الخيل الأصيل.. حكاية الخباز الفقير.. حكاية هند الملثمة.. وغيرها الكثير، عندما كبرت شعرت بفضل حكايات أمي العجيبة، عندما تواصلت مع العالم الخارجي ومع مختلف أنصاف البشر شعرت بنعمة الخيال التي غرستها أمي فينا منذ الصغر، رأيت كم أننا نملك يقيناً بما نؤمن، كم أننا نملك قوة خفية عندما نرغب بشيء، رأيت كيف تنساب الأمنيات بين يدي كلما شعرت بها وتلمستها مخيلتي واتحدت خلايا عقلي مع أقدار الوجود لتُلبي نداء أمنياتي.

لأمي شكرًا لأنَّ بيتنا يقرأ، لأمي شكرًا لأن بيتنا يكتب، لأمي شكرًا لأننا أصبحنا ما كنَّا نحلم به، لأمي شكرًا لأننا أحببنا الحياة كثيرًا ورأينا فيها ما لا عين رأت ولا خطر على قلب بشر، فشكرًا يا أمي.

تعليق عبر الفيس بوك