شهادة أم مهارة

 

مرفت بنت عبدالعزيز العريمية

عرفت الحضارة الإنسانية مفهوم التعليم المدرسي منذ عصور قديمة وكانت الحضارة السومرية أول حضارة إنسانية أنشأت المدارس في 3500 قبل الميلاد بعد ذلك، وفي القرون الوسطى ظهرت الجامعات كمؤسسات تعليمية في كافة الحضارات الأخرى وتطورت إلى ما هي عليها اليوم.

 لم تكن الشهادة الجامعية، أو المؤهل العالي، أو العلمي مؤشّر لإمتلاك الفرد للمهارة، وعبر التاريخ لم يكن الناس يسعون إلى امتلاك الشهادات، بل إلى مهارات يتعلمونها من الآباء والمعلمين والحكماء والحرفيين حتى يحترفوا مهنة أو صنعة، ويعود تاريخ الشهادات عند العرب إلى بدايات القرن الرابع الهجري، أما الشهادات العلمية، فيعود تاريخها إلى القرن الثاني الهجري عند انفصال الطب عن الصيدلة، وفي عهد المأمون كان يمنح الصيدلاني شهادة بعد اجتيازه امتحان الصيدلة.

 في القرن السابع الهجري تبنى الغرب الشهادات، في عهد فريدريك الثاني الذي فتح المدارس،وعمل نظام منح الدرجات العلمية على أساس النقابات المهنية، يحصل الطالب على شهادة بعد قضاءه فترة تدريبية ويصبح عامل أو حرفي بارع. و من يكمل التدريب ويقدم اطروحة يحصل على درجات علمية أكبر ويصبح معلم الصنعة وقد يحصل على درجة دكتواره ويَدرس في الجامعات.

فأساس التعليم إذن إكتساب الخبرة وتعلم مهارة، إلا أنه ومع تطور المجتمعات وتعدّد الإنشطة الإقتصادية وزيادة مخرجات المؤسسات التعليمية أصبحت المؤسسات تعتمد على الشهادة كمعيار توظيف سهل لإثبات كفاءة المتقدم وامتلاكه للمهارة، واحتوت أغلب إعلانات التوظيف على شرط الشهادة والمؤهل العلمي للتنافس على الوظائف.

المهارة حسمت المسألة لصالحها، ففي أعوام مضت أصدر دونالد ترامب الرئيس الأمريكي السابق قرارا فيدراليا لتفضيل أصحاب المهارات على الشهادات في قبل ذلك تبنت أغلب الشركات العالمية مثل مايكروسوفت وجوجل وآبل وغيرها إلى توظيف أصحاب المهارات، حتى أعلنت تلك الشركات عن إستغنائها عن طلب الشهادات كمعيار أختيار كفاءاتها.

لعل هذا القرار الصادر من مؤسسات عالمية مؤشر مهم أن الشهادات لم تعد كافية وان التركيز عاد إلى أصل التعليم وهو تعليم مهارة وكسب معرفة أكثر من أمتلاك درجات علمية وشهادت تخصصية كثيرة قد لا تفي بإحتياجات السوق. فمع التطور العلمي والتقدم التكنولوجي والإعتماد المتزايد على الذكاء الصناعي أصبحت مجالات العمل المتاحة للبشر هي التي تعتمد على توفر عنصر المهارة والابتكار.

من الملاحظ في الدول المتقدمة أن معيار المهارة مازال يسبق الشهادة في التوظيف وحتى في مسألة التقاعد، فلا نكاد نسمع عن إحالة طبيب أو طيار أو مهندس أو عالم أو فني أرصاد أو جغرافي إلى التقاعد، حتى في المهن الفنية البسيطة لأن بعض الوظائف تحتاج إلى تراكم خبرات عبر السنين والشهادة لا تؤكد وجود عنصر المهارة المكتسبة عبر الخبرة العملية. بل بعد العقد السادس يتم إحالة العمالة المهرة والكفاءات إلى نظام توظيف مختلف للإستفادة من مهاراتهم قدر المستطاع.

 في الدول المتقدمة، هناك موظفون يعملون حتى العقد الثامن من العمر في تخصصات الدقيقة والفنية كالطب والهنسة والطيران والتعليم وغيرها التي تتطلب خبرات تراكمت عبر السنين.

 إذن، ماذا سيحدث لمخرجات التعليم من حملة المؤهلات الأكاديمية والدراسات النظرية، خصوصا وأن التعليم بات يعتمد أكثر على الجانب النظري من العملي.

لماذا لا يوجد اهتمام بالتدريس المهني والحرفي للجميع، لكل من يرغب في تعلم صنعة أو حرفة بغض النظر عن مؤهله التعليمي، مثل ما حدث في الدول المتقدمة صناعيًا، التي أولت اهتمامًا خاصا بالتعليم المهني والحرفي في كافة المجالات والمهن لحل مشكلة تأمين موارد الرزق للمواطنين، وذلك بفتح مدارس مهنية لا تشترط مستوى معينا من التعليم، بل أن بعضها أكتفى بمستوى لا بأس به من القراءة والكتابة مع وجود رغبة تعلم، فخرّجت مئات من الحرفيين في مجال الإنشاء، والرعاية الاجتماعية والحوسبة وتقنية المعلومات والرعاية الصحية والخدمات الإنسانية والتجارية والزراعية والفنية تخصصات تغطي عمالة مهرة في مجالات الكهرباء والخياطة والنجارة والحلاقة وسباكة والبناء والديكور والبستنة والطبخ والطيران و فن التجميل والإبداع ورعاية الكبار والأطفال وعلم الحيوان والحدائق...والكثير من المجالات، مجالات لا تحتاج إلى شهادات جامعية ولا ماجستير أو دكتوارة.

لا أعتقد أن هناك شركة ستوظف كهربائيًا بشهادة بكالوريوس أو ماجستير أو طباخًا بمؤهل عالٍ، لذلك قد يعاني حملة المؤهلات والجامعية العليا من مشكلة التوظيف لأن في الوظائف ذات الطابع الفني والمهني، تحتاج إلى مهارة وتدريب فني أكثر من نظري.

على سبيل المثال توجد بالولايات المتحدة المدارس المهنية الفنية التي تقدم خدماتها للصغار والكبار وبدوام جزئي وكلي ويمكن للطالب أن يدرس في كلتا المدرستين فيتعلم المواد الأكاديمية في مدارس التعليم العام ويدرس المجالات الفنية في المدارس الفنية حتى يمتلك المهارة المناسبة للعمل.

بالرغم من التحولات السريعة التي تحدث من حولنا، في تفضيل المهارة على الشهادة، إلا أن الطريق يحتاج إلى تشريعات أكثر ومعايير واختبارات لتوظيف الفرد وفقا للمهارة، ولا بد من مراجعة مسألة الاعتماد الكلي على الشهادة العلمية في التوظيف ووضع تشريعات لإجراء اختبارات مهنية وفنية ونفسية لأختيار الموظفين. وهذا ما قامت به بعض الدول، ولعل حقيقة أن أغلب نجوم في عالم الاقتصاد والمال والرياضة والفن لم يكملوا الدراسة الجامعية دليل أن الشهادة وحدها ليست معيارا للكفاءة والدرجات العالية ليست مؤشرا أن الخريج متوفق عمليا.

الشهادة تمنح الوجاهة والمكانة الاجتماعية، والشهادة قد تؤكد أنك متعلم، ولكن لا تؤكد أنك ملم بالمهارة، فلا ننسى أن ثلث ملياديرات العالم ليسوا من حملة الشهادات الجامعية، بالرغم أن الجميع يسعى للدراسة الجامعية والحصول على شهادة.

لقد أصبح من الضروري مراجعة معايير التوظيف لتحسين جودة العمل بالمؤسسات ورفع كفاءة العمل، وقريبًا قد نرى انحسار الطلب على حملة الشهادات لصالح حملة المهارات، فهل نحن مستعدون؟