قراءة في "الأحقافي الأخير" (2 -3)

سعيدة بنت أحمد البرعمية

"ما قيمة إنجاب طفل لا تتوفر له الحرية" (صفحة: 46).. من هذه العبارة تتضح الرؤية في شخصية علي بن سعيد، والاختلاف الذي مكّن القارئ من تكوين ملامح وأبعاد شخصيته النفسية والفكرية والثقافية والسياسة والقيادية والتزامها بخط مُعين وفق أهداف سامية وصفات وقيم مثلى؛ ممّا يدل على أنها الشخصية الرئيسية في الرواية.

"عندما ابتعد المركب عن اليابسة، ذرف الأحقافي دمعتين لم يلاحظهما أحد" (صفحة: 35)، فعندما بدأ المركب يمخر عباب البحر ويبتعد عن الأرض هاجت عاطفة الحنين داخله قبل أوانها؛ لكن الشعور بالمسؤولية ما جعله يقدم على الابتعاد عن الأرض والأهل، "لا أريد أنْ أنزل رأسي كلما رأيت دائني والدي" (صفحة: 35).

كما تميزت شخصيته بالقيم العسكرية المنزهة. "كيف لعسكري، بكافة قواه العقلية والنفسية أن يقبل الشذوذ" (صفحة: 41).

وتشكل الوعي السياسي في شخصية البطل منذ كان ضابطا في الساحل المتحد، "كان علي سعيد مدركا للعلاقة بين الإنجليز في جيش الساحل المتحد وبين الضباط المهيمنين على الحاكم في بلاد الأحقاف" (صفحة: 42).

وبرز الجانب العسكري من خلال التركيز في حربه على تجنب الاشتباك المباشر مع الطرف الآخر، وميله لإطالة الحرب واتباع أساليب (الكمازاكي) القتالية، وهي طرق قتالية يابانية تعني القتال لآخر رمق، كما أنه مقاتل مثقف يحرص على سماع الأخبار ومحاضرة رفاقه كلّ صباح، ويكتب جملا غير مترابطة على علب السجائر الفارغة بين حين وآخر، ويحرص على تعليم الرعاة القراءة والكتابة. 

بعد عودته للأحقاف عاد بعدّة حرب نفسية وفكرية وثقافية مختلفة عمّا هو في بلاد الأحقاف، "المعركة لا تحتاج إلى سلاح ناري لتكسبها؛ بل إلى روح وثّابة وإيمان مطلق بالقضية" (صفحة: 49)، ربما هذا الإيمان ما جعله يقاتل حتى النهاية، لكنه لم يخلق لديه عدة حرب ملموسة يستطيع تحقيق أهدافه أو يوحّد بها صفوف الذين طالهم التفكك والانقسام والتصفيات القبلية، يعلم أنه وفرقته يتساقطون في حفر الموت؛ لكنه يتجه نحو مصيره بثبات، ليس لإيمانه بالنصر إنما لإيمانه أنه استطاع صنع نموذج مختلف للمناضل الشريف، وهذا ينطبق على شخصية البطل الأسطوري سالم بن سلم.

أمّا شخصية الطيار نشوان الحمرمي، فاعتقدتُ بداية أنها شخصية مدورة؛ ولكن اتضح لي أنها الشخصية الثانوية للرواية التي قامت بسرد جزء كبير من الرواية؛ فقد قامت بدور العامل المساعد لربط الأحداث وساهمت في إكمال الرواية.

وبرزت جوانبها من خلال السرد، فهي شخصية حملت صفة القاتل والضحية معاً، ضحية من حيث إنها ضحية الدولة المنتمي لها، وقاتل كونه طيار حرب مسند إليه تنفيذ عمليات القصف الجوي؛ بالإضافة إلى قتل حبيبته في لندن سابقا، ومع ذلك؛ فهو إنسان رغم كل شيء ظهرت عليه سمات الخوف والقلق من سوء المصير حينما أوقع الثوار طائرته، شعر بالخوف منهم وبعدم التأقلم معهم ومع نمط حياتهم القاسي، لكنه تأقلم مع الزمن وأحبّ آسريه بسبب حسن مُعاملتهم له؛ بل وشعر بالانتماء لهم وللأرض المأسور عليها "لو فرض عليّ القتال مجددا لاخترت الوقوف إلى جانب الأحقافي المقاتل".

وأبرزت الرواية في عدة مواضع انسجامه مع الطبيعة الأحقافية، وربما اعتنائه بشجرة أحقافية في الساحل المتحد أبرز صورة على ذلك، أو حرصه على لقاء سالم بن سلم وشراء السمك منه بين فترة وأخرى. 

ظهرت جوانب هذه الشخصية تباعا للقارئ، شخصية مضطربة تعاني القلق والأرق، تمتلك الخبرة، مثقفة،،قارئة تميل للعزلة، بعيدة عن المناسبات الاجتماعية، مكتفية بذاتها وذكرياتها المؤلمة وبما تقرأ من الكتب، تحول مبلغا كبيرا من المال لأفير الأحقافية، إحدى ضحاياها في الأحقاف، حكم على نفسه بعدم الزواج والانجاب كونه قاتل أطفال وترك حياة السكر والنساء التي كان يعيشها قبل الحرب، يحتار القارئ هل هذا اكتفاء أم عقاب فرضته الشخصية على نفسها، شخصيته كأنها شخصية مركبة في قالب الشخصية الثانوية للرواية.

أوفيرا، اسم لشخصية الفتاة الأحقافية الناجية الوحيدة من القصف، وتعني في معجم اللغة الحديثة، أفارَ يُفير، أَفِرْ، إفارةً، فهو مُفير، والمفعول مُفار • أفار القِدْرَ: جعلها تفور، ويدل الاسم في اللغة الشحرية على ثلاث دلالات، الأولى: ( العفور) كاسم يعني السحب، وكفعل: (عفور حشي) أيّ قلّب التراب، والدلالة الثالثة: (عفور) بمعنى اللون الأحمر. وفي اللغة الإنجليزية "أوفير" اسم فتاة.

لم تكن أوفير في رواية الأحقافي الأخير اسم فتاة منكوبة فحسب؛ بل مجموعة من الأوفيرات الأحقافية، تتحد جميعها في النسب وتختلف في زمن الميلاد، واحدة منهن الفتاة المنكوبة والبقية ترمز للتمرد الأحقافي في عدة مراحل تاريخية.

"أوفير" الاسم الذي ربط في الرواية بين الأنثى المنكوبة أوفير بنت علي بن سعيد الأحقافي واستغلال ضعفها من قبل عمها، والتي توالى عليها سخط الأقدار، وبين حركات التمرّد الأحقافية وما صاحبها من ضعف وتفكك وما آلت إليه في فترات زمنية مختلفة.            

 الآنفي، الاسم الذي استخدمه الكاتب مع عدّة شخصيات في الرواية، بداية "بابن الآنفي "الواشي" والعميد في جهاز المخابرات "ابن الآنفي" وأبيه حميد بن راشد الآنفي.

وتعني الآنفي في اللغة الشحرية الإنسان الأول، كالجد وتمتد الدلالة لتشمل كلّ من قبل الجد، وتعني في اللغة العربية الفصيحة صاحب الأنفة والكبرياء.

شخصيات الرواية كثيرة، ولكن هذه أبرز الشخصيات من وجهة نظري.

كما برزت القيم الأحقافية خاصة للرعاة، من خلال سير الرواية، فهم "الخلطاء"هنا تخرج الدلالة تماما عن رابطة النسب، بمعنى أن التكافل الاجتماعي بينهم لا يرتبط بقرابة النسب وإنما بالجغرافية الواحدة التي لها القدرة على جعلهم كالأسرة.

وأبرزت الرواية عزة النفس التي يتمتع بها الرعاة، بالرغم من بساطتهم وقلة الأدوات؛ إلاّ أنهم يمتلكون من الإباء النفسي ما يجعلهم يعيشون بستر عن العوز والحاجة، فبضعة رؤوس الماعز تغني أهلها عن غيرهم، وفي الغربة جميعم أسرة واحدة يعتاز كلّ منهم للآخر كلما دعت الضرورة.

ومن عادة الأحقافي أن يستقبل أخته وأبنائها بالذبائح عند طلاقها وإن تكرر الطلاق، وألاّ يظهر فرحته عند خطبة بناته أو أخواته؛ فهو لا يظهر إلاّ الثقل لما يتمتع به من وجوم متوارث في مثل هذه المناسات وهذا في عرفه يرفع من قيمة العروس ويضع العريس أمام جهد من السعي للمحافظة عليها إن تمت الموافقة عليه، العادة نفسها وجدها الأحقافي عند الرعاة في الساحل المتحد (صفحة: 44). يُتبع…