تاريخ التعليم في الحمراء.. دروس وعِبر

 

 

سالم بن محمد بن أحمد العبري

 

لقد سالت أفلاج الذكريات مع تدفق الدروس والحكايا وتوالت الصور في الذاكرة مع تتابع اللوحات على جدران المعرض التعليميّ، وانفتحت مناديس الزمن القديم، وانبرت  الشجون تهزني مع انطلاقة الندوة التاريخية نهاية فبراير 2023 التي أقيمت بولاية الحمراء حول "مسيرة التعليم بالحمراء في نصف قرن من الزمان"، والتي حالفها التوفيق، ولربما كانت هي الأولى والمتفردة بين مثيلاتها من الولايات العمانية؛ حيث نجحت في رصد مقدمات "النهضة المباركة" في قطاع التعليم غير النظامي والذي كان يتوفر في معظم المدن العُمانية، وكان يتمثل في ثلاث مراحل.

تبدأ أولى هذه المراحل بمدارس القرآن الكريم والتي كانت تعجّ بها "الحارات" و"القرى" وكانت تلقى اهتماماً وعناية من العلماء والشيوخ والأثرياء رجالا ونسوة نظرا لما أجروه لها من "أوقاف"، و"نفقات جارية" اختصهم الله بقضاء حوائج العباد والإنفاق على الأعمال الخيرية بسخاء ظاهر وخفي؛ وكانت مدرسة "السافل بالحمراء" خير شاهد ودليل والتي اقترنت مكانا وإنشاء وإيصاء بمسجد الحديث الذي أقامه وأوصى له الشيخ سالم بن مسعود العبري بعناية خاصة.

ثم تأتي الحلقة الثانية وهي مخصصة لتدريس "علوم اللغة العربية" وأتذكر أنه في سبيعنيات القرن الهجري الماضي أي خمسينيات القرن الميلادي الماضي كلف سيدي والدي الشيخ محمد بن أحمد بن سعيد بن محسن العبري بهذه المهمة وكانت تضم حجرة ملحقة بصحن "مسجد السحمة" تم تخصيصها لهذه المهمة في الأعم الأغلب والضيافة أحيانا لمن يأتون زوّارا أو حتى للنجوى،  فشرع في إنجاز هذه المهمة وبدأنا معه دراسة "ملحة الإعراب"،  ثم أصابه مرض باطني إثر عودته من رحلة إلى السعودية والإمارات لازمه حتى عودته إلى مسقط فأصابته حمى شديدة مما أثقل عليه شدة المرض.

وكان البعض ممن حضر من الحمراء للتجارة ومنهم المرحوم الوالد راشد بن مسعود بن حسن العبري ووالده مسعود بن حسن بن حرمل العبري- وكانوا هم وأهليهم من أقرب الناس لآبائنا- وكانت الحمراء في تلك الآونة البعيدة تشتهر بأنها معقل زراعة الليمون فأحضروا ليمونا طازجا وأشاروا على أهله أن يسقوه من عصيره كثيرا فخلّفت له حموضة عالية وقرحة بالمعدة، فلم يستطع البقاء في وهدة المرض فخرج للعلاج بدولة الكويت، عام 1962 بناءً على اقتراح من الإمام غالب بن علي الهنائي وزوّده بخطاب لأميرها الشيخ عبدالله السالم الصباح، فلما وصل إليها تم توجيهه إلى المستشفى الأميري الشهير هناك في هذا الزمان، وتصادف وجوده بالمستشفى الكويتي حلول عيد الأضحى المبارك؛ فقدم العبريون على رأسهم الوالد الشيخ سيف بن عبدالله بن سليمان العبري، وكان مقيمًا بها بمنطقة "الفحاحيل" وبصحبتهم الشيخ ناصر بن سليمان الحارثي وطلبوا من إدارة المستشفى السماح له بالخروج أثناء أيام الإجازة،  فتم لهم ما أرادوا فقضى العيد معهم واجتمع هناك جمع غفير من العمانيين المقيمين بالكويت، وأقاموا صلاة العيد بمقر إقامة الشيخ ناصر بن سليمان وأمّهم والدي في صلاة العيد وخطب فيهم- حيث كان موكّلا بالخطابة والإمامة حال غياب العلامة خطيب الحمراء لظروف خارجة عن الإرادة تقتضيها شؤون الحياة أو السفر- وكان والدي خطيبًا ذا صوت مميز جذاب، وعادة ما كان يستعيد على المصلين الخطب الشهيرة المأثورة عن الفقهاء والشيوخ إبراهيم بن سعيد العبري والشيخ العلامة ماجد بن خميس العبري والشيخ المحقق سعيد بن خلفان الخليلي، ثم ذهب فيما بعد إلى أن يختار بنفسه خطبة يؤلّفها من مختارات المشايخ الأعلام من القوم وغيرهم، وقد لاحظنا في بعض الأحيان يتململ البعض من أثر خطبته وإبلاغه بذلك حتى يكاد يهم بالخروج ومغادرة المسجد.

وأتذكر أنه تم تكليفه للقيام بمهمة التعليم والتدريس خلفا للأستاذين شيخي العلم والريادة لجلينا عبدالله وناصر ابني الشيخ محمد بن عامر بن سليم العبري فأكملنا معهما وكان زادنا ومرشحنا للتعليم النظامي ودافعنا للتقدم في مسيرتنا العلمية، والانطلاق نحو آفاق أوسع في حياتنا العملية.

أما المرحلة الثالثة في سلسلة التعليم النظامي فقد كانت مخصصة لدراسة الفقه وكانت تتم عبر مدرسين متخصصين أو مكلفين بهذه المهمة، أو يتوجه طلبة العلم من تلقاء أنفسهم إلى مجالس الفقهاء والقضاة المعتبرين في هذا الزمان ليدرسوا على أيديهم المتون والأصول، وكانوا يلقون من هؤلاء الأحبار استعدادا وقبولا ويفتحون لهم أبواب قلوبهم قبل مجالسهم ويثرون قرائحهم بعلومهم، وقد كان والدي- رحمه الله- من هؤلاء النفر القليل الذين تتلمذوا على يد الشيخ القاضي سعيد بن ماجد السيفيّ يوم أن كان قاضيا بولاية الحمراء، فلازمه واتخذه شيخاً أولاً له، وكان يحرص على زيارته في نزوى، خصوصًا في أيام عجزه ومرضه، وربما لازم عزاءه اعترافا بفضله وأستاذيته.

تعليق عبر الفيس بوك