بالاختلاف تنمو المجتمعات

 

مرفت بنت عبدالعزيز العريمي

نلجأ إلى العزلة والابتعاد عن النَّاس عندما نجد أنفسنا كمن يسبح عكس التيار مُواجها أمواجا عاتية إلى أن يكاد يغرق، يغرق في بحر الخلاف ويذهب الود إلى غير رجعة، البعض يكافح لأنه مختلف فيختار الانعزال عن المجموعة أو البحث عمن يشبهه فكرًا وتجربة يقول ما يريدون ويصفق لما يقولون حتى يسلبوننا استقلاليتنا وشخصياتنا، يقول نيتشة في رسالة إلى أخته "عدم المقدرة على تبادُل أفكاري مع الآخرين هو أسوأ وأفظع أنواع العزلة بالنسبة ليّ على الإطلاق، إن الاختلاف عن الآخرين هو أقسى وأفظع من أي قناع حديدي يُمكن للفرد أن يُعزل بداخله.

لكل إنسان قصة وتجربة مختلفة عن الآخر حتى لو كانوا إخوة وأشقاء فما بالك بالأصدقاء والأقران وبقية أفراد المجتمع، فكلنا مختلفون ولكل منَّا تركيبة وتجربة حياتية مختلفة، فلماذا نكره من يختلف معنا في الشكل أو الفكر أو الانتماء، لماذا لا نحترم الاختلاف . تخيل أن تعيش وسط متشابهين في كل شيء ألا يصيبك الملل وأنت ترى نفس المشاهد وتسمع نفس الآراء مرارا وتكرارا. والتشابه يعني جفاف منابع الفكر وجمود العقل، وغياب الحافز الذي يجعلنا نفكر ونتساءل، إن اختلاف الرأي والحكم على الأشياء بوجهات نظر مختلفة أمر صحي وطبيعة إنسانية .

 لم نخلق متشابهين فلماذا يجب أن تكون أفكارنا متشابهة؟..فتعدد الأفكار والثقافات واختلافها رياضة للعقل يوسع الأفق. يؤمن البعض بمقولة من ليس معي فهو ضدي بمعنى آخر، محاولة لفرض الرأي بالقوة وعدم احترام الاختلاف؛ فالمتشابهون لا يصنعون أفكارا مختلفة أو جديدة، ويفتقرون إلى التجديد، إن المؤسسات التي تتبنى فرق عمل متنوعة ثقافيا أكثر قدرة على الابتكار بسبب التنوع، فقد أكدت الدراسات التي أجراها علماء النفس والاقتصاد والاجتماع أن المجموعات المتنوعة اجتماعيا أكثر قدرة على الابتكار وطرح أفكار متنوعة.

الاختلاف جميل ورحمة، والتنوع في الثقافات والعادات والأفكار إثراء للحياة، ودافع للنمو والتقدم ويجب قبول الاختلاف كطبيعة، فلا يوجد بالعالم نسخ متشابهة، وإلا لما شاهدنا الحضارات ولا الاختراعات التي تعتمد في الأساس، على التنوع في الأفكار والمعلومات والمهارات والذكاءات والقدرات.

من النرجسية أن نجبر الآخرين، على قبول فكرنا وثقافتنا وتوجهاتنا، حتى نسمح لهم بالبقاء ضمن الزمرة، وإن كانت لهم ثقافة مختلفة أو فكرة جديدة يتم نبذهم. فهل يجب أن نتشابه حتى نقبل الآخر؟ الكون عبارة عن مجموعة من التفاصيل المختلفة والمتشابهة والمتجانسة، وغير متجانسة، فالتنوع سر الحياة وديمومتها، إلا أن هناك من يرى أننا يجب أن نكون متشابهين فكرا حتى ننتمي إلى المجموعة، وإلا قد تواجه نقدا مدمرا معنويا .فهل الاستقلالية والحرية الفكرية مجرد كلمة لا وجود لها في الواقع .

في المدرسة تعلمنا أن الاختلاف في الرأي لا يفسد الود، لكن الواقع كان عكس ذلك فيكفي أن تحمل آراءً مختلفة تجاه أية مسألة، حتى تواجه نقدا قاسيا واتهامات جارحة تسلب منك إنسانيتك. ثقافة الاختلاف والتنوع سبب في نهوض المجتمعات والأمم، فالمجتمعات بنيت بسبب الاختلاف والتطوير أوجده أصحاب الأفكار المختلفة. يقال إن الثقافة البدائية هي التي ترفض الرأي المختلف وتحاربه؛ لسببين الأول لأنه سيكون سببا لخروج المجتمع من منطقة الراحة إلى منطقة جديدة تمثل تهديدا لمقاومي التغيير، والسبب الآخر لأن الاختلاف يعني فقدان البعض لامتيازات اعتادوا عليها. فالمجتمعات ذات الفكر البدائي ترى في مصلحة المجتمع صناعة قوالب متشابهة من الناس يفكرون بنفس الطريقة، فإذا أتى أحد أفراد الأسرة أو المجتمع بفكرة أو تصرف خارج عن المألوف حتى لو أتى بفكرة جديدة فإنه يكون عرضة لفقد مكانته بين المجموعة. والبعض ربط بين الاحترام والاختلاف، فالتعبير المختلف يعني قلة احترام والعكس صحيح.

يتبادر أحيانا سؤال في ذهني، ألم تكن العادات والأفكار المتوارثة، فكرة جديدة في زمن من الأزمنة وأصبحت فكرة قديمة الآن، فلماذا نرفض قبول الأفكار المختلفة اليوم؟، لماذا قبلنا أن نغير ما نرتدي، وما نركب من وسائل المواصلات وتقبلنا أصنافا جديدة من الطعام ... لكننا عندما نصل عند نقطة الفكرة الجديدة، أو ثقافة مختلفة فإننا نتفاعل معها باستعلاء، وسياسة غلق الأبواب على كل مختلف.

نحن نحتاج إلى الاختلاف والمختلفين، وتعلم ثقافة التعايش مع كل رأي مختلف، وإلا سنفقد الأفكار الجديدة، ونندثر كما اندثرت الحضارات التي اختارت التقوقع والانغلاق إلى الداخل، من الضروري أن نكتسب مهارات التعامل مع الرأي المختلف بثقافة الاختلاف المسؤول غير العدواني أو العنيف.

إنَّ سبب تقدم المجتمعات قبولهم للأفكار المختلفة، والاستفادة من الآراء الجيدة حتى ممن يخالفونهم في الرأي والثقافة، فكما أستطعنا قبول أن نغير نمط حياتنا، من مأكل ومشرب يمكننا كذلك قبول كل ما هو مفيد، وتعلم قبول الآخر كما هو، حتى نستطيع أن نميز بين الفكرة الصالحة والطالحة، وثقافة الاختلاف تكون عندما ينمو المجتمع، وهو يحمل في تكوينه ثقافة التعايش مع الاختلاف.