يدفعني الحنين إليكِ

 

علي بن سالم كفيتان

 

كُنّا صغارًا نعيش بعيدًا عن النَّاس في تلك الجبال القصية والمنيعة حياتنا تحكمها أنظمة الرعي الأربعة وهي التسريح في البراري، وهذا يدفعنا للبحث اليومي عن مواقع الكلأ الطيب للماشية والسقي، وهذا يقودنا إلى عين الماء يوميًا؛ حيث نجد الناس ونتلقف أخبارهم بنهمٍ، فهذه هي محطة الأخبار الحصرية، وتمثل صلتنا الوحيدة بالعالم الخارجي، إلى جانب الحذر من المفترسات واللصوص.

هذا يجعلنا دائمي التأهب لمجابهة الأعداء والمشاركة في الواجبات المنزلية من حلب للماشية وغيرها، مما يجعلنا نؤمن بروح المشاركة، فتلك العمليات الأربعة مجتمعة تمثل استقرارنا وضمان معيشتنا، بمشيئة الله. لم تكن الحياة مملة؛ لأنه لا وقت لديك، فمنذ بزوغ الفجر وحتى حلول العشاء والجميع يُطارد مهماته، وعندما يجن الليل بظلمته الحالكة يستكين الجميع إلى حضن الأرض ورائحتها الزكية؛ فالفرش من أعشاب الربيع (الألي)* والسقف من حطب الغابة (ميطان)* والوادي ينفح مع كل مساء رائحة زهور أشجار المشط (سغوت)* إلّا أن الوحدة كانت تتسلل إلى داخلي لعدم وجود أطفال في سني بالقرى المجاورة.

أراقبُ صفحة السماء المزدانة بالنجوم حتى ألفتها وألفتني، جلساتي مع الليل لا تنتهي، والقمر يزيح ركام الوحدة؛ فكوخ الجدة فسيحٌ وله مدخل واسع يجعلني أرى النجوم وأنا في حجرها، تكاد تكون الوحيدة التي تُحب رحابة المكان مع وجود فتحات للتهوية؛ فالقاعدة في ذلك الزمان كانت عكس ذلك تمامًا؛ حيث تغلب نظرية الأمان على الشعور بالراحة. أرى من خلف غصن شجرة الصمغ (ثور)* التي يوصد بها الباب، حركات في الظلام، ربما حيوانات أو هوام الليل، وربما بشر، وربما أناس من العوالم الأخرى! كما كان الأهالي يخبروننا ويحذروننا من التماس مع تلك العوالم المخيفة. تجاهلتُ الموقف وأغلقت عيني مستسلمًا لسلطان النوم، لكن الأمر لم يكن مجرد ظل؛ بل تطوّر إلى صوت كالأنين، يدور حول الكوخ ويستقر خلف اشواك غصن الباب، تمتمتُ ببعض الآيات التي تعلمتها من جدي، وعدد من الادعية التي كان كبار القرية يرددونها وهم ينتظرون صلاة الفجر (لا إله إلا الله- استغفر الله- نسألك الجنة ونعوذ بك من النار)؛ فهي كانت ذخيرتي الدينية الوحيدة في تلك المرحلة، أنظرُ إلى الجدة وهي تغط في سبات عميق، والقلق يتصاعد في نفسي، والمشهد يزداد رهبة بين الفينة والأخرى.

لقد أطفأنا النار قبل النوم؛ فهي إحدى المحظورات؛ لأن شرارة واحدة تكون كفيلة بإشعال كامل الكوخ المصنوع من الحطب والحشائش وأوراق الأشجار. وهج السماء يجعلني أراقب ذلك الظل الغريب وتلك الأناة الحزينة التي يقشعر منها البدن. أدخلت رأسي في لحاف جدتي وأغلقت أذني بأصابعي وأغمضت عيني. لم أعد أسمع الصوت، ودخلت في غيبوبة النوم الريفي الهادئ، وفي الخيوط الأولى للفجر صحوت على صوت إبريق الجدة وهي تملأه بالماء من قربة جلدية (نيد)* دَفّعت غصن الشجرة الشوكي للخارج، وخرجت بكامل طولها الفارع، وهي تحمل عدة صلاتها: الماء وثوب أخضر ورداء أبيض تلف به رأسها وتسدله على ظهرها. بعد الوضوء تجلس إلى مصلاها المفتوح قرب الكوخ في انتظار الأذان الذي يأتي بصوت جدي من على رابية غير بعيدة. في هذه الأثناء، أكون ما زلتُ أتململ في الفراش الأثير بأرضيته المكسوة بالأعشاب منتظرًا نداء الجدة للصلاة، ليست لدي الصلاحية لاستخدام إبريقها الفضي اللامع، كان عليّ أن استخدم إبريقا آخر، تكدس عليه السخام الأسود والكثير من الصدمات التي تنبئك عن الخدمة الطويلة والممتازة لهذا العضو الأصيل في أسرتنا.

عندما سألت في الصباح عمّا سمعت ورأيت في الليل، قالوا لي هذه (معيذيب)*... يسمع صوته أحيانًا في هذه الأنحاء، أما الظل الذي كنت أراه وربطته بالصوت، فلم يكن سوى غصن شجرة التين التي تغطي كوخنا، تحركه الريح، فيتمايل أحيانًا ليظهر ظله من المدخل.

يدفعني الحنين إليكِ أيتها الأرض الطاهرة والتراب الأصيل؛ فأشعر بفداحة الذنب... وأطلب الغفران.... لانشغالي عنك يا ظفار.

******

  • الألي: أعشاب السافانا الطويلة كانت تستخدم سابقًا لتغطية المنازل الريفية وفرش للنوم بعد وضعها في قطع القماش.
  • ميطان: شجرة الزيتون البري وتسمى كذلك العتم في شمال عُمان ويعد خشبها هو الأصلب في غابة ظفار.
  • سغوت: الشجرة الأكثر انتشارًا في جبال ظفار ويقتصر وجودها عالميا هناك لها زهور فواحة ورائحة زكية في الصيف وتفضلها المواشي عن غيرها.
  • ثور: شجرة الصمغ العربي البرية لها أشواك حادة يستخدمها الرعاة في الماضي لسد مداخل البيوت وزرائب الماشية لتقوم مقام الباب.
  • نيد: قربة تصنع من جلد الماعز الجبلي في جبال ظفار وتستخدم لنقل وتخزين الماء في الماضي.
  • معيذيب: صوت يسمع في الليل من بعض الأماكن كالأنين ويقال إنه لإنسان مغيب أو نفس تعذب حسب الرواية الشعبية.