طفولة الموت

هند الحمدانية

يقول محمود درويش: أرى السماءَ هناكَ في متناول الأيدي، ويحملني جناحُ حمامةٍ بيضاءَ صَوبَ طفولةٍ أخرى، ولم أحلُم بأني كنتُ أَحلُمُ، كل شيءٍ واقعي، كنتُ أعلمُ أنني ألقي بنفسي جانباً وأطيرُ، سوف أكونُ ما سأصيرُ في الفلكِ الأخير.

تتأرجح الطفولة في الأشعار بين أجنحة الحمائم البيضاء، بين بساطة المواقف وعفوية الأيام فلا تخطيط مسبق ولا تفكير فيما كان، فهي البرزخ الدنيوي الذي يفصلنا عن كل مربكات الحياة وحيرتها إلى اطمئنان أرواحنا الصغيرة وهي تغفو في لحظة سقوط تام في أحضان أمهاتنا أو دفء عوائلنا متدثرين بالأخوة والأخوات وبأصدقائنا الصغار من الأقارب وبيوت الجارات.

فهل ما زلتم تمارسون طفولتكم حتى اليوم.. هل ما زلتم تتمتعون بالبراءة، تتمتعون باللعب، تتمتعون بالأحلام أم أنكم أصبحتم مثلنا؟! نحن أطفال سوريا النازحين حول العالم منذ أكثر من 12 عامًا، أكثر من 3 ملايين طفل سوري لاجئ حول العالم بحسب تقارير الأمم المتحدة، 3 ملايين طفل عدد كبير جدا ولا يمكن أن يستهان به، ولكن لماذا استهان العالم بنا؟ لماذا تركنا مشردين ونازحين طيلة 12 عامًا، لماذا لم تتساءلوا عن طفولتنا المغصوبة عن الجروح التي خلفتها آثار الحرب والتهجير بنا؟!!! لماذا؟؟؟؟!

أما اليوم، وبعد مرور اثني عشر عامًا عجاف، وبعد التمزق والانشقاقات استَقبلنا قدر الله لتسقط من شجرة الطفولة السورية ما تبقى من تفاحاتها الصغيرة؛ حيث أعلنت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) عن أكثر من 2.5 مليون طفل سوري معرض للخطر بسبب الزلزال الذي ضرب الشمال الغربي من سوريا، 2.5 مليون طفل هذا رقم ينذرنا بأن كارثة إنسانية جديدة على وشك الانفجار إذا استمر الضمير الإنساني يصارع سكرات الموت التي افقدته شعوره الفطري الحي ووجدانه الأخلاقي.

عن أي مشاهد الطفولة نتحدث الآن؟! عن مشاهد الهلع والخوف التي باغتتهم لتسرق ما تبقى من دفء عوائلهم، أم عن الأطفال الذين بقوا أيام متواصلة بين الطوب وتحت ركام المباني وبين أحضان جثث أمهاتهم وءابآئهم، أم عن الأطفال الذين أنقذوهم من تحت ركام الزلازل وهم غارقون في جروحهم الجسدية وصدمة نفسية تسرد حكايتها خصلات شعرهم الواقفة من الذعر وأعينهم التي اتسع بؤبؤها بدون أن يصدر منهم صراخ أو صوت؟

كيف سيُجبر هذا الكسر؟! كيف ستداوى هذه الجروح المتراكمة والمتتالية؟! ومن المسؤول؟؟؟ الوضع في سوريا مأساوي ويفوق التصورات؟؟ فلقد كان هناك مئات الآلاف من الأطفال الأيتام الذين خلفتهم الحروب قبل الزلزال، ونضيف عليهم اليوم أكثر من 2.5 مليون طفل بين نازح ومشرد ويتيم ومصدوم، هؤلاء الذين فقدوا عوائلهم وجيرانهم وربما لا يكون هناك أقارب لهم في ظل الظروف السياسية التعيسة التي تعيشها البلد، هؤلاء الذين خرجوا من صدمة الزلزال إلى صدمة أشد من الزلزال وهي هذه المخلفات النفسية العميقة والوحدة والظروف الموجعة في مواجهة حياة لا تمت للحياة الإنسانية بصلة.

هؤلاء الأطفال يحتاجون لعوائل مُحِبة إذا أردتم لهم أن يتشافوا ويتعافوا، يحتاجون لأن تحتويهم الأسر، ولأن تفتح لهم أبواب البيوت، ولأن تستقبلهم الأمهات والأحضان، يحتاجون لدعم نفسي صادق ومكثف، يحتاجون لكيان أسري يلملم ما تبقى من أضلعهم التي هشمتها ظروف الحرب ورعب الفقد، دور الأيتام والمخيمات الجديدة التي تبنى هي موت بطيء لهؤلاء الأطفال، هي موت بطيء جدا جدا سوف يستنزف ما تبقى من لين أطرافهم ومن ماء عيونهم ومن ذكرى مشوشه لملاح وجوه أمهاتهم اللاتي فارقنهم في هزة الزلازل.

فلتفتحوا صدوركم لهم ولتمدوا الأيدي لتمسحوا الأسى عن وجوه أبنائنا السوريين، ألسنا الجسد الواحد؟ أليس كافل اليتيم مع رسول الله في الجنة كهاتين؟ وهل هناك فعل يلين القلب القاسي يُعادل مسحة حانية على رأس يتيم مسكين، فعن أبي الدرداء رضى الله عنه قال: "أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل يشكو قسوة قلبه؟ قال: أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم وامسح رأسه وأطعمه من طعامك يلن قلبك وتدرك حاجتك"، هو نداء عاجل لمن ما زال يشعر بانتمائه لهذه الأمة، لمن لا زال يفتخر بعروبته وبدينه، لقد حان الوقت لأن نفتح أبواب بيوتنا لتكون الملاذ الآمن والملجأ بعد الله لأطفالنا الأيتام، لنمنحهم حياة بعد الموت وبهجة بعد الألم وسعادة بعد البؤس وإخوة بعد الفقد ووالدين بعد اليتم.

تعليق عبر الفيس بوك