مع ديفيد أنسل في بلد سيت (2-2)

 

علي بن سالم كفيتان

صَمَتَ الميجور أنسل وكأنَّه يعلم أنني شككتُ في قُدراته عندما كان يقود سيارة "اللاند كروزر" الحكومية بكل احترافية في ذلك الطريق المُخيف، وفي ظل هذا الصمت المُطبق قطع الطريق قطيعٌ كبير من الأغنام الجبلية الجميلة التي تلمع شعورها البنية مع غروب شمس الجبال، نزل العجوز بينما أنا مكثتُ على مقعدي أتأملُ هذا المنظر المهيب مستعينًا بكاميرا لتوثيق الحدث، وفجأةً اختفى الرجل؛ فحسبته ذهب لقضاء حاجة، لكنه تأخر وكذلك القطيع أصبح يعبر الوادي إلى الضفة الأخرى.

نزلتُ بهدوء وتأملتُ المكان، وفي هذه اللحظة، سمعتُ ديفيد يناديني من جرف سفلي، ولا أكاد أراه.. اقتربتُ حتى وجدته جالسًا في ظل سمره مع رجل عُماني، نزلت إليهما؛ فنهض الشايب ليقف على عصاه ويصافحني. ثم التأمت الجلسة لتحوينا مع أحاديث الود والوفاء بين الميجور الأنجليزي والشايب العُماني، تتخللها ضحكات يُرددها الوادي. فقد سرد الرجلان مواقف لا تنتهي حدثت بينهما عندما كان فريق شق طريق بلد سيت المكوّن من ضباط بريطانيين ومجندين عُمانيين يعملون ليل نهار بالمعاول والأدوات البدائية لتصل السيارة "اللاند روفر" الأولى إلى هذه القرية المتحصنة في عمق هذا الجبل الشاحب المهيب. غاب عنَّا الشيخ لربع ساعة وعاد حاملًا معه خلية نحل بيضاء مُثقلة بالعسل، نسجها النحل على غصن شجرة برية، فتذوقت أبا طويق الجبلي للمرة الأولى، لم استطع أخذ الكثير منه؛ فقد كان حادَ الطعم، بينما التهم الميجور الخلية؛ حيث كان الشايب حمد يقصف له كل مرة شقفة، ويقول "يستاهل المقدم ديفيد". عقبها تناول الرجل من خرج جلدي معلق بالشجرة دلة القهوة، لنحتسي أنا والميجور بضعة فناجين، ولاحظتُ الامتنان العميق بين الرجلين فسألتُ نفسي: "كيف غرس هذا العجوز الإنجليزي هذا القدر الكبير من الود في هذه الأرض البعيدة؟".

تبع الراعي أغنامه، ونحن عدنا إلى مركبتنا المثقلة بالأغراض، عبرَ بها الميجور أنسل طريقًا لا يمكن وصفه إلا بالصعب الشاق والمخيف، وكلما توغلنا نحو أعماق الجبل زادت الأمور سوءًا. وقف أكثر من مرة ليتفحص أشجار السدر جامعًا ما يستطيع، ويأكل بكلتا يديه، وهو يقول: "هذه أفضل فاكهة يا صديقي". قبل الركوب مجددًا يلتقط الصور بكاميرته العتيقة ويكتب لوقت طويل ملاحظاته التفصيلية للمكان بكل دقة في كتاب مذكرات كبير يضعه بجانبه بين المقعد وناقل الحركة، وفي عدة مرات يقول لي: "هذا مخي"، مشيرًا إلى كتاب المذكرات.. "أنا صرت عجوزًا لا أستطيع تذكُّر كل شيء، لذلك أسجل كل ما أراه هنا".

لا تكاد تفوته صغيرة ولا كبيرة، من الطيور إلى الفراشات والحشرات والزواحف والأشجار والشجيرات، وحتى الأعشاب، وفي أحيان كثيرة ينكب على بطنه لتصوير نبتة غريبة لا يعرفها، ويقول "راح أوريها الشايب خلفان هو يعرف كل شيء هنا". والحمد لله أنه لا زال حيًا كما أخبرني الشايب حمد وذاكرته لا زالت حاضرة، فقلت في نفسي "الله يساعد العم خلفان فهذا الرجل يدون كل شيء حتى أحاديث الجن والسحر والغائبين والأساطير".

لم أكن منتبهًا حيث كنت أُعيد شريط الصور في الكاميرا، وفجأة قال لي الميجور: "وأخيرًا وصلنا.. انظر أمامك إلى هذه الجنة المختبئة عن الأنظار". أوقف السيارة وشاهدتُ منظرًا بديعًا يصعب وصفه، قرية هادئة في حضن هذا الجبل العنيد حقول خضراء مترامية على المدرجات وبساتين النخيل تتمايل بغنج مع نسمات باردة قادمة من عمق المكان، دخان يصعد إلى السماء من وسط الحقول، وديك يصيح، وامرأة عُمانية تنزلُ في وسط هذا المشهد، وخلفها طفلان يتسابقان بينما، هي تسير بثبات وعلى رأسها جحلة فخارية ضخمة تضع تحتها قطعة قماش كفاصل بين الرأس وقاعدة الفخار، وحِمار يصعد من أقصى القرية، وعليه حمولة ثقيلة يقف بين الفينة والأخرى ليستريح، ويميل بوجهه إلينا، محركًا أذنيه مثل الرادار، ثم يواصل الصعود حتى يختفي بين البساتين.. وهناك شلال يتدلى من رأس جبل سحيق كخيط أبيض على خلفية الجبل الأسود الكالح، وينغمس بهدوء خلف الجميع؛ ليروي المدرجات الخضراء ويشق طريقه إلى جامع بلد سيت وسبلتها العامرة بالرجال والكرم.

لم يكلمني الميجور أنسل ولم أكلمه؛ بل تركنا الكلام لأعيننا وعدسات كاميراتنا، وبعد قرابة الساعة من المتعة النظرية الحصرية التفتَ إليّ وقال: هل رأيت من قبل منظرًا كهذا؟ قلت له: "لا.. ولا أعتقد أنه يوجد مكان آخر كهذا في الكون". ثم ركبنا السيارة لندخل بلد سيت آمنين.

*******

** قرية بلد سيت الجبلية من أعمال ولاية الرستاق، ورغم جمالها الأخّاذ إلّا أنَّ سكانها يهجرونها لمناطق أخرى بسبب وعورة الطريق وقلة الاهتمام.

** الميجور ديفيد أنسل عملَ لسنوات كخبير بيئي في وزارة البيئة (سابقًا)، وهو عضو مؤسس لجمعية البيئة العُمانية، وأشرف على بدايات مشروع حماية الوعل العربي (الطهر) وتُوفِيَّ عام 2015.