ألبسني قيدًا.. لكن من ذهب!

 

عائشة السريحية

أنا حر!

يقول بملء فيه: أنا حر، وأقول له: عن أي حرية تتحدث وأنت مكبل بقيود تجرك بها عدوى القطيع، توجهك حيثما تريد وتصنع بك ما تشاء، ليس مهماً أن يكون توجهها صحيحًا أو خاطئًا إنما هي نفس تلك العبارة التي خرجت من أفواه من هلكوا من الكفار الغابرين في القرآن الكريم "قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا كَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ" (الشعراء: 74).

مُسيّر أم مُخيّر؟

وُلِدتَ دون أن تُخيّر بتاريخ ميلادك، أو جنسك، أو لون بشرتك وعرقك، ولدت دون أن يستشيرك أهلك عن الاسم الذي ترغب أن ينادونك به، لأبوين لم تخير بينهما وبين غيرهما، في بلد لم تعطَ خيارات لتضع علامة الصح على إحداها في قائمة طويلة تحوي بلدان العالم، دخلت مدرسة لم يكن بيدك حيلة في اختيار سواها. انتظر لم تنته القضية بعد، ستقول لي تزوجت من أردت، وأكلت ما أرغب، وشربت ما أود، وأفعل وأفعل، مهلا يا صديقي، ليست الأمور بهذه السهولة أتدري أنك قهرت بالجوع؟ وخياراتك فقط بماذا عليك سد جوعك؟ وقهرت بالعطش وخياراتك فقط أن تختار ما تشرب، وقهرت بالنوم وخياراتك فقط في اختيار السرير أو المكان، وقهرت بالشيخوخة وخياراتك فقط بالأدوية والعقاقير أو العمليات سواء طبية أو تجميلية، ثم تنتهي بالموت.

أتعرف أنَّ الأمر كان محيرا بين الفرق الإسلامية لقرون والتي أطلق عليها الفرق الكلامية، وما بين اختلاف وآخر ظل الأمر معلقا لم يجد إجابة أو تفسيرًا غير أن الناس تركوا هذا الجدل الذي لا طائل منه كونه لن يغير من حقيقة الأمر شيئًا.

إنَّ المعنى المطلق للحرية هو معنى مقيد، لطالما أنت مربوط بالجاذبية نحو الأرض وتشعر بالاختناق إن حاولت أن تغوص في بحارها أو تطير في سمائها، ستسألني ياصديقي بالتأكيد وتقول: هل أستسلم وأترك الأمر للظروف؟

إذن لماذا أتحدث عنه الآن؟

لسبب بسيط جدًا، ومهم جدًا- من وجهة نظر البعض- ألّا وهو عدوى سلوك القطيع، كي لا يكون تفكيرك بالسائد والمنتشر لأنَّ مجموعة كثيرة من الناس يتجهون لذات الطريق يحملون هواتف ورؤوسهم منحنية ورقابهم مثنية لا هم لهم سوى ضغط زر الإعجاب والمتابعة والإثارة والجدل يعطون التفاهة معنى، ويعظمون سخافة ما يقدمه الأفراد أو المنظومات الإعلامية حجما وهالة، أصبح الإنترنت مكانا لترويج كل نطيحة ومتردية وما أكل السبع، أصبحت الشهادات الأكاديمية سهلة، وأصبحت الدكتوراه الفخرية بمقابل اشتراك وأصبحت المنظمات الإنسانية مقابل رسوم تمنحك ما تشاء من التكريمات والشهادات وحتى لو لم يكن لك أي علاقة، المسميات والألقاب ترسل عبر الإنترنت، معظمها لا يسمن ولا يغني من جوع، وكلما زاد المتابعون في وسائل التواصل ظن المرء أنه طالما والجميع يصفق علي أن أصفق، طالما والجميع يعترض علي إذن أن أعترض، طالما والجميع يرى أن المخلوقات الفضائية ستنزل من الفضاء وسنحاربها أو نتفق معها إذن علي أن أؤمن بذلك، قامت ثورات سميت بالربيع العربي وكادت تحرق الأخضر واليابس في كل شبر من أرض العرب، لولا رحمة الله ولطفه، ونظمت وفعلت بسبب عدوى السلوك الجماعي، والسبب هو الانسياق وراء الفكر الجماعي دون التفكر والتدبر بالعقل والمنطق، واستقلالية التفكير واتخاذ القرار.

جهاز التحكم عن بعد

أن تكون شخصًا مُستقلًا بفكرك وذاتك، يعني ألا تعطي غيرك جهاز التحكم والريموت كنترول، كم شخصية تعرف رأيناه قويًا معتدًا بنفسه لكنه يفتح أذنيه للآخرين ليقودونه كما تقاد النعجة، فينفذ لهم ما يريدون دون أن يتأكد فعلا مما يريد، وكم من رجل قوي تمتلك جهاز التحكم الخاص به امرأة إن قورنت به لوجدناها لا تملك عشر ذكائه، وكم امرأة تعد نفسها قوية ومستقلة وجهاز التحكم سلمته لظل يسيرها كما يشاء يمنة ويسرى، وكم من شاب طموح ذكي متفتح يعطي جهاز التحكم به لجماعة إرهابية أو شلة فاسدة تتعاطى المخدرات أو ترتكتب الجرائم، وكم فتاة جميلة يتمنى الارتباط بها عشرات الرجال المحترمين تسلم جهاز التحكم لصديقة فاسدة أو شاب معدوم الأخلاق أو تنخرط في عصابات الاتجار بالبشر.

نحن الكتاب قد نرى الأمور بشكل مختلف، ومن زوايا مختلفة، لكن كثيرون منا أيضًا يسلمون جهاز التحكم بهم لغيرهم.

ذات مرة قالت لي امرأة بسيطة تدعي الذكاء: أنت لا تشبهينا!، نعم هي مُحقة تمامًا، لست أشبهها فأنا مختلفة كثيرًا عنها، مختلفة لأني أعيش في عالم آخر يختلف عن عالمها، أكثر فيه من التأمل والتفكير، أطرق أبواب ماذا لو، وكيف ولماذا، لا يرضيني أن يفكر الآخرون بالنيابة عني أو يقررون بدلا مني، لا أهتم كوني أسير في طريق أنفرد به لوحدي أو برفقة القليلين جدًا ممن يشبهوني، لا يرضي غروري بعض المديح، ولا تُغريني بعض المجاملات، لا أهتم كثيرًا لعدوى القطيع، أعيش في عالمي ومحيطي، أترك بصمتي وأثري بهدوء دون ضوضاء، أتجنب حلبات الصراع، لا يُضايقني من يتحدث خلفي، ولا أهتم لمن يحاول رمي حجارة في طريقي بغية تعثري، لكني لا أضيع حقي أيضًا .

الحرية

إنَّ معنى الحرية ليس التمرد على المبادئ والقيم، ولا التمرد على الأنظمة والقوانين، كما إنها ليست عشوائية أو فوضى لإثبات الحرية المزعومة، إنها ضوء داخلي ينبعث من الفكر المستقل، يرفض التبعية للفكر الجماعي الأعمى "سلوك القطيع"، وهي الحد الفاصل بين تسليم العقل للغير واستقلاليته، وهي المنطق العقلاني الذي يقي المرء ارتداء القيد بمحض إرادته، وكثيرون جدًا ليسوا أحرارًا.

الفخُ متقنٌ والصنعةُ احترافيةٌ، والعالمُ متغيرٌ، والقطعان كثيرة، والمفكرون وحدهم من لا يقعون في هذه الشراك.