قصص من كتاب الشعر والشعراء لابن قتيبة

فاطمة اليمانية

عندما نقرأ كتب التاريخ العربي، ومصادر الأدب العربي، نستشعر فطنة وذكاء العرب، رغم أنّ عددًا من صنّاع الإعلام العربي المشبوه سعى إلى نقل صورة مغايرة للحقيقة... فإمّا أنْ يكون الشاعر مخمورًا أحمقًا لا يفقه شيئًا مما يقول، والخليفة أشدّ حمَقًا منه! أو يكونُ جبانًا وصوليًّا يقبل الإهانة والإذلال.
فحنّطوا لنا صورة الزمن القديم، بملوكه، وشعرائه، ورجاله، ونسائه، وأحاطوها بإطار سمنتي، من الصعب اقتلاعها من ذهن المتلقّي... فالخليفةُ يقطعُ الرقاب، والشاعر العربي لا همّ له سوى ابتلاع حفنة الدراهم التي يرشقه الممدوح بها. بينما تضجّ كتب الأدب، والتاريخ بالكثير من قصص الشعراء الذين يتحلّون بالشجاعة، والإقدام، ويقصفون الجباه؛ بلا مبالاة، أو تردد.
ويعدُ كتاب ابن قُتَيْبة "الشعر والشعراء" من الكتب القيّمة المليئة بقصص الشعراء العرب، وسأذكر بعض القصص التي وردت في الكتاب، مع تغيير طفيف في صياغة بعض القصص، من حيث الاختصار، أو استبدال كلمة بكلمة أخرى؛ لتصل إلى القارئ بسلاسة ويسر.
"تشبيهات مُسْتَهلَكة"
في بلاط الخليفة عبد الملك بن مروان، كان للخليفة عبد الملك بن مروان مع الشعراء العديد من القصص الطريفة، ومنها قصّته مع الأخطل، الذي قال له: يا أميرَ المؤمنين، قد امتدحْتُك. فقال له الخليفة: إنْ كنتَ تشبّهني بالحيّة، والأسد؛ فلا حاجةَ لي بشعرك! وإن كنتَ قُلتَ مثل ما قالت الخنساء، فأسْمِعْني شعرك. 
فقال الأخطل:
وما بَلَغَت كعبُ امرئ متطــــــاولٍ         به المجدَ إلّا حيثُ ما نلتَ أطوَلُ
وما بلغَ المهدُون في القولِ مِدْحَةً         ولَوْ أكثروا إلّا الذي فيك أفْضَـلُ
 
ويبدو أنّ الخليفة تشبّع من التشبيهات المستهلكة في ذلك الزمن، بينما يظنُّ بعض الشعراء المعاصرين أنّ تشبيه الممدوح بالأسد هو قمّة المدح، وذروته!

"لَمْزٌ آمن"!

وحضرَ بلاطَ الخليفة عبد الملك بن مروان الشاعرُ أرطأة بن سُهيه، وأنشده أبياتًا، قاصِدًا تذكيره بالموت، أو ربّما متمنيًّا له الموت! باستخدام الكُنية المشتركة بينهما، وهي أبو الوليد، فقال:

رأيت المرءَ تأكله الليالي ** كأكلِ الأرضِ ساقطة الحديدِ
وما تبقى المنيةُ حينَ تأتي * على نفسِ ابن آدم من مزيدِ
وأعلم أنّها ستكرُّ حتى * توفّي نذرها بأبي الوليدِ
 
ففزع عبد الملك؛ لأنّ كُنْيّته أبو الوليد، فقال له الشاعر: لم أَعْنِكَ، إنّما عنيت نفسي! رغم أنّ الجميع يعرف أنّ الخليفة يكنّى بأبي الوليد، فكيف سيجهل الشاعر لقبه؟  
"شجاعة شاعر"
أمرَ عبد الملك بن مروان الشاعر أيمن بن خُرَيم بقتال ابن الزبير، وقال له: إنّ أباكَ كانت له معنا صحبة، ولعمّك أيضًا؛ فخُذْ هذا المال، وانطَلِق فقاتل ابنَ الزبير!  فقال الشاعرُ رافضًا:
ولستُ بقاتلٍ رَجُلًا يُصْلّــي
على سلطان آخر من قريش
له سُلْطانُه وعليَّ وِزْرِي  
معاذَ الله من سَفَهٍ وطيش
أأقتلُ مُسْلمًا وأعيشُ حيًّا؟ 
فليسَ بنافعي ما عشتُ عيشي!

*****
(لا بأس إنْ هَجَا الأنصارَ نصرانيٌّ كافر!)
وطَلبَ يزيدُ بن معاوية من الشاعر كعب ابن جُعَيْل هجاءَ الأنصار، وقال له: إنّ عبد الرحمن بن حسّان قد فضحنا؛ فاهج الأنصار. فقال له كعب معتَرِضًا، ومجرّدًا يزيد بن معاوية من الألقاب، مكتفيًا بندائه باسم الإشارة انتقاصًا لطلبه:
أرادّي أنتَ إلى الشرك؟! أأهجو قومًا نصروا رسول الله ﷺ وآووه؟! ولكنّي دالُّكَ على غلام منّا نصراني كافر شاعر! فدلّه على الأخطل! 
***
"لقاء في النار"!
جاء عنبسة بن مَعدان إلى باب بلال؛ فرأى الفرزدق وقد نعس؛ فحرّكه برجله، وقال له: بلغتَ النارَ يا أبا فراس. فقال له الفرزدق قاصفًا جبهته: نعم، ورأيتُ أباك ينتظرك!
***
"رثاء العدو الصديق"! 
مات الفرزدق قبل جرير؛ فلمّا بلغ جريرًا موته، أطرقَ طويلًا، وبكى، فقيل له: يا أبا حَزْرة ما أبكاك؟ قال: بكيتُ لنفسي! إنّه والله قلّ ما كان اثنان مصطحبان، إلّا كان أمد ما بينهما قريبًا، ثم أنشأ يقول:
فُجِعْنَا بحمّال الدّيَات ابنِ غالبٍ
وحامي تميمٍ عِرضها والبراجم
بكيناك حدثان الفراق وإنّما
بكيناك إذ نابت أمورُ العظائم
***
"حب عن بعد"
من أطرف القصص التي قرأتها في كتاب "الشعر والشعراء" قصّة ذي الرمّة، أحد عشّاق العرب، وشعرائها المشهورين، والذي كان يحبّ امرأة اسمها ميّه، وكانت كما ورد: طويلة الخدّ، شمّاء الأنف، عليها وسم جمال. وكانت تبادل الشاعر الحبّ لكثرة ما قال فيها من أشعار، وتتباهى بأشعاره فيها، ونذرت لله من شدّة شوقها لرؤيته، أنْ تَنْحَرَ يومَ تراه بَدّنَة (ناقة)؛ فلمّا رأته رأتَ رجلًا دميمًا أسودًا، فقالت من هول الصدمة؛ لأنّه على عكس ما تخيّلته: وا سوأتاه، وا بؤساه! فغضب ذي الرمّة، وقال فيها معرّضًا، وهاجيًا، وغاضِبًا، ومتحسّرًا على قصائده فيها:
ألَا حبّذا أهلُ المَلَا غيرَ أنّه
إذَا ذُكِرَت مـيٌّ فلا حبّذا هِيَا
ألمْ ترَ أنَّ الماءَ يَخْبُثُ طعْمُهُ
وإنْ كانَ لونُ الماءِ أبيضَ صافيا فيا
ضيْعَةَ الشعرِ الذي لجَّ فانْقضَى            بِميّ وبم أمْلِكْ ضَلالَ فؤادِيَا

*** 
"منسك من مناسك الحج"!
حكى المفضل الضَبّي قصّته مع امرأة تُدعى (الخرقاء) حين نزل على بعض الأعراب، فقال له أحدهم: هل تريد رؤية الخرقاء صاحبةُ ذي الرمّة؟ فوافقَ فَرحًا؛ لكثرة ما سمع عنها، وعندما وصلا إلى خيمتها، خرجت الخرقاء، وكانت امرأة طويلة حسناء، فسلّمَت عليهم، وتحدثت ساعة، ثم سألته له: هل حججتَ قط؟ فأخبرها بأنّه حجَّ في وقتٍ سابق، فقالت له معاتِبة: فما منعك من زيارتي؟ أمَا علمتَ أنّي مَنْسَك من مناسك الحَج؟ فسألها: وكيف ذلك؟ فقالت له: أما سمعت قولَ عمّك ذي الرمّة:
تمامُ الحجّ أنْ تقفَ المطايَا
على خرقاءَ واضعة اللثّام!

والطريف في هذه القصّة مقدار الثقة بالنفس الذي يفوح من حديث الخرقاء، والزهو بشعر ذي الرمّة الذي رفع قدرها، وجعل زيارتها ركنًا من أركان الحج، رغم أنّها مبالغة شاعر مهووس بامرأة من ضمن مجموعة نساء عبرن حياته، ولامسن شغاف قلبه.
***
"إثارة غيرة"!
ورد في كتاب "الشعر والشعراء" أنّ قيس بن الملوّح كان رجلًا جميلًا، ظريفًا، حلو الحديث، وكانت ليلى تُعْرِض عنه، وتُقْبِل على غيره بالحديث؛ حتّى شقّ ذلك عليه؛ وأخبرها بما يشعر؛ فأقبلَت عليه، وقالت:
كِلَانَا مُظْهِرٌ للناسِ بُغْضًا
وكُلٌّ عند صاحِبِه مكين!

ويبدو أنّ ما يحدث قديمًا، هو ما يحدث حديثًا لكن بإصدارٍ جديد! كما نسمع ونشاهد من تصرّفات المحبّين، وشعورهم بالمتعة في إثارة غيرة الطرف الآخر! 
***
"الشاعر الكذّاب الذي لا يكذب"!

الكذّابُ الحِرْمَازِيُّ، واسمه عبد الله بن الأعور، وقيل له الكذّاب لكذبه، رغم ذلك قال مدافعًا عن نفسه، على غرار جميع الكذّابين في كلّ زمانٍ ومكان:
لست بكذّابٍ ولا أَثّام
ولا أُحِبُّ خُلَّةَ اللِّئام

والمصيبة أنّه كان يهجو قومَه، داعيًا عليهم بأن يتسلّط عليهم شاعرًا يخزيهم، وكأنّ وجوده بينهم غير كافٍ لفضيحتهم بين القبائل، فقال:
إنّ بَنِي الحِرْمَازِ قومٌ فيهم
عَجزٌ وإيكالٌ على أخِيهم
فابعث عليهم شاعرًا يخزيهم
يعلمُ منهم مثلَ علمي فيهم!