المقهى

 

سليمان المجيني

tafaseel@gmail.com

 

لن يفهم أحد علاقاتنا مع الآخر أو مع الأشياء إلا إذا عايش مثيلها، ومع ذلك لن يفهمها بشكل فطن وسريع، ومهما اجتهدنا فلن نصيب الحقيقة وبؤرة اليقين لأن مسحة الذات سوف تكون طاغية على الأمر، فعلاقتي مع كاتب مثلي، لأصحاب النظرة السلبية، سوف تكون علاقة انتهاز لا علاقة تكامل، وعلاقتي مع الصحفي علاقة مصالح لا علاقة احترام للقلم، وعلاقة الطالب الجامعي مع الأستاذ علاقة ابتزاز لا علاقة تعلم، وهكذا لا يستطيع الناظر للأشياء السلبية الوصول إلى الحقيقة مهما اجتهد في الأمر.

أما إذا عايش مثيلها فقد يصل- ربما- إلى تقريب الفكرة لنفسه، وربما سوف يتردد في إصدار الأحكام السلبية عن أناس يذهبون- مثلًا- لاحتساء المشروبات المبالغ في أسعارها (كما يرى) بالمقاهي العامة، وهذا بيت القصيد.

حينما تحدد وجهة ذهابك صباحا لإنهاء عمل أو تأدية واجب ثم تجد نفسك أمام مقهى تطلب مشروبك المفضل، وتذهب ليلا مقهى آخر لتطلب ذات المشروب فاعلم أنك مغرم، وحينما تأتي مشتاقا لمقهاك المفضل فتجده مغلقا، وللمكتبة التي بقربه فتجدها تلفظ أنفاسها بسبب مالي فقط ستشعر بغصة كبيرة تأخذك إلى ألم عضوي قبل أن تؤمن بحكم الذوق، وستعلم أن معادلة السوق لا تتناسب مع أحبابك، وستجدهم يتناقصون أمامك دون مزية أو فضيلة قد ترد القضاء، وألمك يزداد لكن عليك أن تفتح بابا للصدمات تخرج منه لأنها ستكثر أو هكذا عليك الاستعداد.

حينما يُغلق المقهى الذي تجد فيه نفسك، المقهى الذي ترتاده باستمرار ولا تجد مثيله فإن الفقرة الوحيدة التي تقرأها قد غم عليها إلى غير رجعة، تشعر بالقلق وربما الخوف، وينتابك الألم من تلك الروائح غير المستساغة التي تشتمها بفعل غياب مكتبة بعمق ما تحمله من عبق تنثره على قرائها.

سفرك السنوي لمرة أو مرتين إلى بلدان العالم يجعلك غنيا بطاقة إيجابية تستمر معك لفترة ثم تخطط لسفر آخر في السنة التالية أما عاشق القهوة فإنه يعيش سفرا يوميا؛ فحينما تبدأ بارتشاف قهوتك تسافر بعيدا في وجهتك التي تزدان أمامك دوما ثم تأتي مرة أخرى لتسافر وتبدأ رحلة الاستكشاف لترى عوالم أخرى توقظ فيك حواسك ومشاعرك التي - ربما - حطمتها مشاغل الحياة فتسجي نفسك موليا شطر ما تحب في كل فرصة وليس في كل يوم فقط!

أنت هنا تقطع تذكرة مرجعة تلقي بهمومك لفترة معينة في خانة النسيان، ومن ثم تقطع أخرى وهكذا تستمر مرتاحا في الحياة مشاكسا ومحبا لما حولك ولعالمك الذي مازال يعطيك من جماله، ولأن الجمال درجات فكذلك يمكنك الاختيار بين ذوقك وجمال روحك؛ فالوجهات تختلف وأسعارها مرهونة بعطائها، حيث يكمن عطاء المقهى في مدى تناسب واجهة وإطلالة المقهى ومكانه والمواد الظاهرة المستخدمة في إنشائه، ومخزونه الداخلي وديكوره وألوانه وكراسيه وترتيبه، تجهيز المطبخ والأدوات المستخدمة وتعامل العاملين وزيّهم، وطبعا طعم القهوة، وأشياء أخرى قد لا تخطر في بال مناهضي هذا النوع من المقاهي.

بإمكانك يا صديقي أن تستشعر هذا الأمر لتقترب من الصورة، أما أن تتحدث من بعيد فليس لك حاجة أن تشرح الأسباب المحبطة، والظن القاسي بسبب الصورة الضبابية التي شحنت بها ذاكرتك، الاقتراب من الأمر يعطيك صورة مقربة أكثر للحقيقة عنها إلى الإنشاء.

متى يأخذ الإنسان الصور التذكارية، في العادة؟.. أعتقد أن الإجابة حاضرة؛ فعندما أكون سعيدا أو على الأقل قريبا من الفرح سأكون متهيئا لأخذ صوري التذكارية مع أحبابي، ولأن الحياة غنية بالأحباب؛ فما الضير من كسب ثقتها بأخذ صور تذكارية معهم؟..

المقهى وكوب القهوة ضمن تلك وهؤلاء.

تعليق عبر الفيس بوك