الشركات الحكومية وآلية الطرح العام

سعود بن حمد الطائي

لا تُقاس قوة الدول دائمًا بقوة جيوشها وحجم أسلحتها الفتاكة، لكن أيضًا بقوة اقتصادها؛ فالاقتصاد القوي هو الذي يضمن التفوّق للدول، وقد شاهدنا جميعًا في الاتحاد السوفييتي (سابقًا) كيف انهارت واحدة من أقوى الإمبراطوريات وتهاوت دويلاتها كحباتِ عقد ثمين، وذلك ليس بسبب ضعف مواردها، وإنما بسبب عدم كفاءة أنظمتها الاقتصادية وإدارتها المخيبة للآمال؛ فالدولة تستند إلى أعمدة قوية أحدها وأكثرها قوة هو اقتصادها وشركاتها العملاقة التي تغزو- دون سلاح- كل منزل في العالم عبر التلفزيونات وأجهزة الحاسوب ووسائل الاتصال وغيرها.

وقوة الاقتصاد وبناؤه لا تأتِ من فراغ؛ لأنها عملية تحتاج إلى جهود كبيرة تشترك فيها الدولة مع القطاع الخاص وأبنائها المخلصين، وإذا كانت هناك أعمدة لقوة الدول وكفاءتها فإنَّ الاقتصاد هو أهمها وأبلغها تأثيرًا.

وانطلاقًا من هذا الفهم ومعرفة مواطن القوة والضعف عند الدول، نستطيع أن نبني على الأقل اقتصادًا يضمن لأبنائنا مستقبلًا زاهرًا؛ وذلك عبر تأسيس شركات قوية قادرة على النمو والانتشار في محيطها الخليجي والعربي، وربما العالمي أيضًا. وهذه الشركات بعضها موجود وبحاجة إلى طرحٍ في سوق المال، واستخدام حصيلة طرحها في إنشاء أو تعديل أوضاع شركات أخرى، ولكن ربما تحتاج هذه العملية إلى ديناميكية وسرعة، والاتجاه بقوة نحو الهدف. ولتفسير ذلك بصورة أفضل أقترح أن تشكل الدولة هيئة مستقلة لإنشاء المزيد من الشركات الحكومية بشرط أن تُطرح نسبة كبيرة منها للاكتتاب العام، بعد تمكنها من الوقوف على قدميها ولفترة لا تتجاوز 3 سنوات. ومن المهام السريعة لهذه الهيئة أن تعمل على حصر جميع الشركات الحكومية الحالية والبدء في طرح أسهمها في سوق المال، ودعوة بعض الصناديق للدخول في هذه الاستثمارات بنسب لا تتعدى 50%. والأمر الأكثر أهمية يتمثل في أن تذهب حصيلة أموال الطرح إلى إنشاء شركات جديدة أو تعديل أوضاع شركات متعثرة بسبب إداري أو مالي.

ربما يجادل البعض بأن الدول القوية تترك القطاع الخاص وشأنه وتكتفي بقضاياها السيادية ومشاغلها الكثيرة، لكن التحليل العميق يكشف أن معظم سياسات الدول القوية تهدف إلى تحقيق مكاسب لشركاتها، وإلا فلماذا كل هذه الحروب، سوى لتزدهر مصانع السلاح، ولماذا الصراع على مصادر الطاقة إلّا لكي تحقق شركات النفط العالمية أرباحًا، ولماذا كل هذه الأوبئة الآخذة في الانتشار على فترات متقاربة سوى لكي تحقق شركات الأدوية العالمية أرباحًا لم تكن لتستطيع أن تحلم بها، إلا من خلال تدخُّل الدول في تهيئة العالم لهذه السياسات.

صحيحٌ أن الدولة ليس عليها أن تمارس التجارة، لكنها تهيئ البيئة المناسبة من تشريعات وقوانين وتسهيلات لازدهار الاقتصاد، ولذلك فإن الشركات التي تؤسسها الدولة يجب أن لا تبقى في حوزتها، إلا لأمدٍ قصير، وبعد ذلك تتأكد من قدرتها على البقاء والاستمرار من خلال طرح أسهمها لمواطنيها في سوق المال، وبهذه الدورة الاقتصادية القصيرة سوف تتوسع دائرة أملاك المواطنين وتنمو مدخراتهم.

وهذا النموذج ليس بجديد، فهناك الكثير من الدول اعتمدته وعملت به وحققت نجاحًا وتقدمًا؛ منها على سبيل المثال: إمارة دبي؛ فشركة إعمار التي تقود التنمية العمرانية هي في الأساس- وما زالت- شركة حكومية تأسست من أجل إنشاء مشاريع الإعمار والفنادق، وبعد نجاحها طُرحت أسهمها في سوق المال وحققت نجاحًا لافتًا.

إنَّ الاقتصاد المزدهر هو ذلك الذي يضمن لأبناء الوطن، الحياة المستقرة التي تؤدي بدورها إلى زيادة الولاء وحب الوطن وتزيد من إخلاصهم في أعمالهم، وتعزز إنتاجهم؛ الأمر الذي يؤدي إلى رفعة الوطن وسموه، وتبقى الدولة الضامن الأول والأخير لحصول أبنائها على نصيبهم من الخيرات.