هيفاء الحسيني.. شامية تهوى ظفار

علي بن سالم كفيتان

كنت في المرحلة الثانوية عندما رأيتها للمرة الأولى، فبدت على وجهي علامات الاستغراب؛ فهي امرأة مختلفة عن كل النساء اللاتي أعرفهن.. هنا ربت أبو منير على كتفي وأجلسني بالقرب منه؛ ليُخبرها بمن أكون، وبعدها تقدمت بلطفٍ وسلمت عليّ معرفةً نفسها بابتسامة لطيفة ووجه بشوش: "أنا خالتك أم شيماء، زوجة سالم"، وهي تُؤشر بيدها إلى أبو منير، وأردفت قائلة "من سوريا... من الشام"، ثم سألتني بلهجتها السورية الجميلة: "عم تعرفها؟" فأجبتها بالإيماء برأسي، وقلتُ عاصمتها دمشق، وهنا ابتسمتْ مرةً أخرى وقدمت لي الكثير من المُقبِّلات اللذيذة، وفي كل مرة تقول "هذه من إيدي مش شغل الخدم"، ومن يومها عرفت كل أصناف المعمول وصرت زبونًا دائمًا في الأعياد والمناسبات السعيدة عند خالي أبو منير.

أبو منير شخصية غامضة، ومع ذلك سهل المعشر، وخاصةً معي، بحكم العلاقة الأسرية والاحترام المتبادل، حتى في أيامه الأخيرة التي كنت أزوره فيها بالمستشفى. وذات مساء شتوي كنَّا في مزرعته العامرة بمنطقة الرباط، فمن عادته أن يقضي الوقت ما بين العصر والمغرب هناك، بينما يقوم العامل العجوز- الذي يبدو كصديق أكثر منه أجيرًا في ذلك البستان المترامي الأطراف- بإحضار شاي بنكهات طبيعية لنا ولضيوف المساء، ومرات يكون هذا الشاي بالنعناع، ومرات بالزنجبيل، ومرات "شاي زهورات"، فجميع هذه الأصناف مزروعة قرب جدول صغير بجانب تلك الاستراحة الهادئة والجميلة. ومن لطفه- رغم كبر سنه ومقامه- يخدمك بنفسه، ويشرح لك فوائد كل هذه الأصناف. في تلك العصرية، حاولتُ أن أنبش حقل الذكريات فسألته عن سبب اقترانه بتلك المرأة العربية، فجال بنظره بعيدًا إلى السماء، ثم قال: "أنت ابني لا تعلم شيئاً... أم شيماء ثمرة كفاح ونضال لا ينتهي وصمت".

وعندما هممتُ باستكمال نبش الذاكرة، وصلت سيارة مرسيدس تقل رجلًا طويلًا جميل المُحيا، أشاهده للمرة الأولى، فاستقبلناه بحفاوةٍ، ورحب به أبو منير أيُّما ترحيب، ثم سأل عني، فأجابه أبو منير "هذا ابن اختنا"، ولم يستغرق الكثير من الوقت ليعرف كل أهلي وأقاربي، ويسأل عنهم، وعلمت لاحقًا أنه الشيخ سهيل بن قحموم المعشني- رحمه الله- أحد رجال الأعمال في ظفار وصديق شخصي لأبو منير، وبعدها بوقتٍ قصير حضر الشيخ سعيد بن مسعود مريخ- عليه رحمة الله- فدار الحديث عن التجارة والمناقصات، وضعتُ أنا بين الثلاثة؛ فاستأذنتهم راكبًا سيارتي، متجهًا إلى الجبل، تتصارع الكثير من الأفكار في رأسي عن الرجل؛ فهو كما سمعت أحد كُتّاب الوالي في صلالة في خمسينات القرن الماضي، ومرت به الحياة ليقضي أوقاتًا في الغربة بين سوريا والعراق، وربما بلدان أخرى، ثم نزيلًا في سجن الجلالي لسنوات؛ ليُصبح بعدها رئيسًا تنفيذيًا لبلدية ظفار وأحد كبار تجار ظفار.

ومنذ أن عرفت أم شيماء عن قرب، علمت أن اختيار أبو منير لم يكن عبثيًا؛ فهي من نسل شريف ينتمي لأسرة الحسيني، التي استوطنت الشام وينتمي إليها الحاج أمين الحسيني مُفتي القدس، وثُلة ممن دافعوا عن الأرض والعرض، فسالت دماؤهم زكيةً على تراب فلسطين؛ فاقترنت تلك الشامية الأصيلة بذلك المناضل القادم من الجنوب العربي، وشكّلا أسرةً عظيمةً يشعُ منها روح الإيمان وعبق العروبة. لقد جمعتني اللقاءات والأمسيات والأحاديث الجانبية بأبو منير وأم شيماء، فعرفت جزءًا بسيطًا من تاريخٍ بات رواته اليوم خارج عالمنا، وتعلّمتُ الكثير من صبر وجلد الرجل، وتضحيات السيدة بكل ما تملك من مكانةٍ اجتماعيةٍ ورغد عيش؛ لتقترن بذلك القادم من ظفار وترحل معه ليستقر مقامها في بلاد بعيدة وأناس مختلفين، ومع ذلك ظلت ممسكةً بحبل الوفاء لأبو منير وكل أصدقائه، حتى آخر نفسٍ من حياتها؛ فعندما زرتها بعد وفاته عقب انقضاء عدتها أرخت الدموع على جبينها الطاهر عليه قائلةً: "أنتم ريحة المرحوم"، ولم يكن لها حديث غير مناقب الرجل وحسن صنيعه ومواقفه الخالدة معها ومع أسرتها. اضطررتُ للمغادرة مبكرًا لأن وجودي نبش المزيد من الأحزان، وكنت على موعد بلقاءٍ لم يحدث، حتى علمت بخبر وفاتها الأسبوع الماضي، ووصيتها أن تُوارى الثرى في ظفار.

بوفاة السيدة هيفاء الحسيني أُسدل الستار على قصة حب وكفاح لم تحكَ بعد عن روحين اجتمعا على الوفاء وافترقا عليه، وأثمرت أحفادًا من نسل شريف حملوا نعشها بسكينة إلى حيث أرادت ليسكن جسدها الطاهر تراب الأرض التي أحبت. رحم الله أم شيماء ورحم الله أبو منير.

*******

أبو منير: الشيخ/ سالم سعيد (بحر) نيشر بيت سعيد

أم شيماء: الهاشمية/ هيفاء بنت إسماعيل الحسيني