"أقمار الشعر" تتنزل على أمسية ثقافية بولاية بركاء

عُمان ومصر والعراق وسوريا والكويت تجتمع على "مائدة الفراهيدي"

...
...
...
...
...
...
...
...
...
...

 

◄ الشيخ المكرّم محمد الخليلي: في السماء قمر وضَّاء.. وفي مجلسكم أقمار شعرية

◄ الشيخ سالم العبري: أيها الشعراء أسمِعوا العالم شعركم وعبِّروا عن ضمير أمتكم

◄ أ.د. نائل حنون: قصائد بالخط المسماريّ موزونة عروضيًا منذ 4 آلاف سنة

◄ أ.د.عبد الحميد مدكور: أنجزنا 36 مجلدًا من المعجم التاريخي للغة العربية

◄ الشاعر هلال عون: عُمان موئل الشعر والكرم.. ونحيي موقفها العروبي الذي لا يتغير

 

الرؤية- ناصر أبو عون

 

في ليلة قمراء، تنزّلت أقمار الشعر على مزارع ولاية بركاء، التي تسند رأسها على كتفي ولايتي نخل ووادي المعاول من ناحية الغرب، وتطل بوجهٍ صبوحٍ مجلل بالخضار على بحر عمان، لتحتضن الشمس التي تشق بكارة المزن السابحة في السماء قبيل الفجر، فوق "بحر عمان"، والمتدثرة بعباءة المجد المضمخ بالانتصارات، الذي ما زال يفوح عطرها من حصن الساحل الملاصق لـ"بيت الفليج"، ويتردّد في أروقته صدى صوت السيد سلطان بن أحمد، وتستعيد الصفحات المكتوبة على جبين التاريخ، وتستحضر ذكرى الانتصارات، وتسكب صليل السيوف البارقة في أُذن الليل على أعتاب "دما" الرابضة في جنوبها لتنهل الأجيال العمانية الجديدة التي تترى لتعيش في رباط القيم الدينية جنودا على الثغور، وتستذكر"معقل الأسطول البحريّ الأول في عهد الإمام غسان بن عبدالله (192هـ -207هـ)".. في هذه الليلة صدحت بلابل الشعر، وتفجّرت ينابيعُ الدهشة قصائدَ ترتدي عباءة الخليل بن أحمد الفراهيدي، وتقتفي في صورها الصافية الشفافة أثر شعراء عمان الأوائل، وتتدثر قوافيها بأغاني المجد الأثيل، وتمتح من أفلاج اللغةِ ألفاظًا ناصعة البياض، لم تدنسها أدران الحداثة المدّعاة.

مجلس الخليلي

كان المكان في مزرعة الشيخ سالم بن محمد العبري يستضيء بالشعر، ومن فوقنا كانت تصدح ليالك الليل، وتهدل أسراب الحمام، ويرش القمر ضوءه على رؤوسنا واستنار "مجلس الخليليّ" بنجوم الشعر والأدب واللغة من أقطار عربية عشقت عمان وأهلها، واستهل حديث السمّار الشيخ سالم مُرحبا: "هنا مكانكم الذى استنار بنور وجوهكم، وفي هذه الولاية التى باركها الله، اسمًا وواقعًا، يأتي لقاؤنا في شهر رجب المحرَّم، والمكرّم بإسراء الله بخاتم أنبيائه، محمد صلي الله عليه وسلم. وتأسَّف لأنّ بعض العرب والمسلمين، لم ينتبهوا لقدسية الأقصى، ثالث الحرمين، وتألّم لأنهم قلبوا له ظهر المجن، وأعرضوا عن نصرته، ولو بشطر كلمة.

ثم يفجر البروفيسور العراقي نائل حنون الباحث بجامعة نزوى مفاجأة علمية؛ خلاصتها أن الأوزان العروضية موجودة في النصوص الشعرية في متن ألواح "اللغة الأكدية" والكثير من القصائد المنقوشة بالخط المسماريّ موزونة على بحور الشعر المتداولة الآن، وأنّ براعة الخليل بن أحمد الفراهيديّ نجح في استكشاف القواعد، ووضع تفاعيل البحور، والتي نظمها أبو الطاهر البيضاوي من بعده في بيتين: (طَوِيلٌ يَمُدُّ البَسْطَ بِالوَفْرِ كَامِلٌ فَسَرِّحْ خَفِيفًا ضَارِعاً يَقْتَضِبْ لَنَا//وَيَهْزِجُ فِي رَجْزٍ وَيَرْمُلُ مُسْرِعَا منْ اجْتثَّ مِنْ قُرْبٍ لِنُدْرِكَ مَطْمَعَا)، بينما جاءت سائر النصوص في "اللغة السومرية" على شكل مقطوعات نثرية. ثم أكد للحضور أنه "درس اللغتين السومرية والأكدية وشرح نصوصهما التاريخية والأدبية، (المنقوشة بالخط المسماريّ)، وكان سبّاقا لكل الباحثين في ترجمتها إلى اللغة العربية، ومن هذه النصوص "شريعة حمورابي" و"ملحمة جلجامش، قصة الخليقة البابلية" وغيرها من النصوص التاريخية والأدبية والاقتصادية".

المعجم التاريخي

وبعده تحدث د.عبد الحميد مدكور، الأمين العام لمجمع اللغة والأمين العام لاتّحاد المجامع اللغوية والعلمية، العربية في القاهرة، مؤكدا أنّ أكثر من 300 باحث من أحد عشر مجمعا لغويا في الشرق الأوسط يشتغلون في مشروع "المعجم التاريخي للغة العربية"، والذي يدعمه الشيخ سلطان القاسمي، وقد صدر منه حتى الآن 36 مجلدا تغطي "تسعة أحرف" فقط من الأبجدية العربية، وفكرة المعجم الجديد تقوم على "كتابة تاريخ لكل مفردة في اللغة العربية ومعانيها الحقيقيّة والمجازيّة" منذ ظهورها وحتى عصرنا الحاضر. ثم أوضح د. مندور أن المعاجم السابق إصدارها لم تشكّل سوى 5% فقط من المعجم الذي حَلُم به الألمانيّ أوغست فيشر، الذي كتب أول قاموسٍ تأريخيّ مشيدا في مقدمته بجهود المستشرق الهولندي رينهارت دوزي.

ثم امتزجت أمواه الشعر المتدفقة من نهر العاصي في مجمع أفلاج بهلا (الداؤودي والغيلي والعيني)؛ لتدور سواقي الغزل الحلال، وترقص القُبَّرات على أطراف ألسنة الشاعرين السوريّ هلال عون، والعُماني سعيد اليعربيّ، وتتصاعد دقات قلوب الجمهور وتتمايل على إيقاعات التشبيب، وتفكُّ أعنة الألسن على إيقاعات النسيب، وتصدح الأرواح العفيفة على دبكات الغزل العذريّ.

بعدهما أدخلنا الشاعر أشرف العاصميّ، إلى بردة نبويّة في تطواف حول كعبة المعنى، في قصيدة تضج بالصور الشعريّة، ذات نزعة صوفيّة، وكانت طريقته في الإلقاء التي تعتمد على تقطيع التفاعيل، وتتوسل بالنبر التنغيمي، تنقل المستمعين روحا إلى أرض الحرمين، وإن كان الجسد خاشعا في الجلال على طاولات بيضاء في "بركاء"، ثم انتقل بنا الشاعر أحمد بن مظفر الرواحيّ إلى ساحة "جلد الذات"، ووخز الضمائر ليوقظها من سباتها، و"يقطع دابر الذين" صمتوا، و" رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ ٱلْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ".

وما بين إدريس الرياميّ، وغصن العبري، ثارت شجون، ونبتت ذكريات، وتأججت نيران "النوستالجيا"، وليس من وارد يأتينا بقبس، واشتعل رأس القصيدة وردا ونورا، "واستوت على" جودي الخليل ابن أحمد.

استدعاء شخصيات تاريخية

ومن الافتتاحية الشعريّة المُغناة، والتي أطلّت منها روح الشاعر " عبد الله بن علي الخليليّ أمير البيان" من شرفة الغيب على الحضور الخاشعين في حضرة القصيدة على لسان موسى بن قسور العامريّ، وما قبل الختام ألقى الدكتور علي بن هلال العبري الذي استدعى فيها شخصية مُفتي عمان السابق الشيخ العلامة الخطيب شيخ الشريعة والأديب إبراهيم بن سعيد بن محسن العبري والوقوف على مشارف ذكرى وفاته في 14 من مارس بقصيدة عن "السيارة" والتي كانت حديث عهد بسلطنة عمان إبان حياته.. ثم استدعى الشيخ الشاعر المكرّم محمد بن عبدالله الخليلي ليختتم الأمسية، وكان الجميع يتوقّع أن يطوف بقلوبنا في حديقة شعره الغناء؛ ونهزّ شجرة البلاغة، ونقطف رطبا من الأفكار الغضّة، إلا أنه آثر الشكر على الشِّعر؛ ودعا لمن أكرم وفادة الأمسية مشاركا أو مستمعا، وأثنى على مُقدِّم الندوة الشاعر والإذاعيّ بدر الشيبانيّ، ودعا الجميع الحاضرين والغائبين لحضور مجلس الخليليّ في سمائل الفيحاء.

تعليق عبر الفيس بوك