الشتاء الباسم

محمد بن سعيد الرزيقي

الشتاء كلمة تختزن في ذاكرتنا معاني كثيرة؛ ودلالات عميقة، وذكريات جميلة عاطرة، فصباحاته الماطرة على الأرض العطشى، وقطرات أمطاره الجاثمة على أوراق البساتين وأغصان الأشجار المجاورة تتلألأ كحبَّات البلَّور الَّلامعة، ومساءاته الدافئة بين أحضان الأسرة المُتحلِّقة حول النَّار المشتعلة على وقع الأمطار الهاطلة، كلُّ ذلك يرسُم على محيانا سعادة هانئة، وعلى وجوهنا ابتسامات بادية، وفي قلوبنا سرورًا وفرحةً غامرة.

كلُّ شيء في الشتاء يبدو جميلًا؛ فنسمات هوائه العليلة تُنعش النَّفس المُتعبة، وتُجدد فيها النَّشاط، وتبعث على العمل والعطاء، وإخضرار الأرض بعد هطول الأمطار، وجريان الأودية يسر النَّاظرين.

أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكًا من الحسن حتى كاد أن يتكلما، هكذا صور شاعرنا العربي الربيع أحسن تصوير، وأبلغ عبارة، لو كان شاعرنا بين ظهرانينا الآن لاستأذنته في جعل الشتاء مكان الربيع في البيت السابق؛ لأننا في بلداننا لا نشعر بالربيع، ولا نحس بأن ربيعًا مرَّ بنا إلا ما يُذكر في التقويم؛ فالربيع معنا لا تعتدل حرارته، ولا تغريك أجواؤه بالخروج والتَّنزه؛ إذن الشِّتاء هو ربيعنا؛ فإذا أقبل شُدَّت الرِّحال، وأُضرمت النِّيران، وضُربت الخيام في البراري، والسيوح، والصَّحاري، واجتمع الأحباب والخلَّان على موائد الذبائج والطعام.

ولكل منَّا ذكريَّات مع الشِّتاء ولا أخالُ أحدًا يُعدم من ذكريَّات؛ فكنَّا ونحن صغارًا إذا ما هجع المطر، وانقشعت سُحُبه وبقي منها قليلًا هنا وهناك، وغسَّلت الأمطار الأشجار وبدا اخضرارها القاني، وحسنها الفاتن، وظهرت الجبال بألوانها الزاهيَّة وهي تُعانق المُزن في عليائها، وخرجت الطُّيور من أوكارها تغرد بألحانها الشجية،. وظهرت من بينها الحمام تنوح في جو السماء تقبض أجنحتها حينا وتبسطها حينا آخر مسرورة بالأجواء الرائعة، في تلك الأجواء المُلهمة والمُغريُّة كنَّا نخرج إلى فضاءات القرية الفسيحة ونحن نرتدي فوق رؤسنا قبعات صنعناها من (الجواني) تحمينا من المطر، ومداهمتة لنا أثناء سيرنا ولعبنا، وكنَّا نُشكل من الرمال المُبللة البيوت والخيام، ثم نتبارى أيُّنا أحسن بيوتًا وخيامًا.

لا يُمل نهار الشتاء ولا ليله، وهو عند أصحاب الأعمال، وأرباب الحرف فرصة سانحة لإنجاز الكثير من العمل، وعند المشتغلين بالعلم وتحصيل المعرفة غنيمة؛ فالهدوء ونسمات الهواء الباردة تدفعهم لمواصلة الجد والاجتهاد في تحصيل العلم، وعند المُؤمنين أصحاب الهمم السامقة، الطامعين في رضا رب العالمين، المتزلفين إليه سبحانه وتعالى بأنواع مختلفة من العبادات فرصة سانحة ينتهزونها في صوم النهار، وقيام الليل، كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (الشِّتاءُ رَبِيعُ الْمُؤْمِنِ طَالَ لَيْلُهُ فقامَهُ وَقَصُرَ نَهَارُهُ فَصَامَهُ).

تعليق عبر الفيس بوك