أيام شامية

لا تصدّق كل ما تسمع

 

 

أمينة أحمد

لكلّ عصرٍ وسائله الإعلامية، ففي البيئة الشامية كانت "الداية" وهي المرأة التي تقوم بتوليد النساء، الطبيبة والفاحصة والخاطبة والقائمة بإصلاح ذات البين ونقل الرسائل بين نساء الحيّ، وصلة الوصل بين نساء الحي ورجاله، وهي التي تنقل الأخبار التي تحدث في الحي والقرية والمنطقة وحتى إلى الأحياء المجاورة، ومن الرجال كان يقوم بهذا الدور، "الحلّاق" الذي يقصّ شعر الرجال ويهتم بتزيينهم، كما أنّه يقوم بدور طبيب الأعشاب والحكواتي ونقل الأخبار، وحتى حل الخلافات العائلية... إلخ، وكانا "الحلّاق والداية" مصدر الثقة الرئيسي وناقل الأخبار الأساس ويحظون بمكانة شعبية مرموقة، رغم أنّهما ينقلان المعلومة وفق رؤيتهما، مهما كانا صادقين في نقلها.

أما اليوم وبعيدًا عن الأيام الشامية ومع التطوّر العلمي والتكنولوجي يكفي أن نمسك بيدنا هاتفنا النقّال وندخل على شبكة الإنترنت وبكبسة زر واحدة نعلم ماذا حدث في مكان أبعد من الحديث بكثير مثلًا لنعلم ما ذا حدث اليوم في كندا؟ ونشاهد صور الحادث المدمّر في أستراليا... ونحضر مباراة كرة القدم كأنّنا في الملعب، ونتابع فنون الطبخ والفن والأحاديث الدينية... إلى ما لا حصر له، صحيح أنّ هذا شيءٌ إيجابي، وبنفس الوقت أفسح المجال للكثير من الشكوك وانعدام الثقة والتضليل والتهويل وحرف المسار عن الطريق الصحيح، والمؤكّد أنّه كما يقول المثل "وراء الأكمّة ما وراءها" وليس كلّ ما يصل إلينا مجانًا بهدفٍ سويٍ ونيّة سليمة، مما يفترض أن نفعّل المحاكاة العقلية، والتفكير السليم، لا سيّما من النخب المجتمعية والمثقّفين وأصحاب الرؤى والكاريزما الشعبية الذين يملكون تأثيرًا في بيئتهم، لكي نسأل أنفسنا هل كلّ ما نشاهده صحيح؟ هل علينا أن نصدّق كل ما يقوله الآخر، حتى ولو كان مقطع "فيديو" أو "صورة" أو حتى "تسريبٌ صوتي" أو حدثٌ ما يحدث في هذا العالم، لا سيّما في العالم الفقير.

هل علينا أن نقدّم الدعم للمتضررين من إعصارٍ ما؟ وهل سنتحمّس لدعم عملٍ جراحي بإنقاص وزن فلانٍ بعد أن شاهدنا الصور قبل وبعد دون المرور على الأوجاع والمخاطر التي تحصل، والتي لا يمكن وصفها ولا نقلها ولا حتى التعبير عنها لضرورات تسويقية قبل أن تكون مشاعر لا يشعر بها إلا صاحبها، وقد ينساها بعد أن يشفى، وكيف سنتصرّف مع صورة فقيرٍ يشحّذ أو موقفٍ خطرٍ يحصل، وكيف سنقتنع هل هو حقيقي أو معدّل وفق أحد البرامج الاحترافية، أم ماتت الروح الإنسانية لدى ملتقط الصورة؟

هذه التساؤلات تجعلنا نستذكر عبارة ذهبية تقول "لا تصدّق كل ما تسمع وصدّق نصف ما ترى"، فنحن بشر قد ننسى ونخطئ، نزيد وننقص، قد نتجاوز عمّا لا يرضينا، ونزيد على ما يرضي أهواءنا ومصالحنا، ونحن هنا لا نُطالب بالبحث والتدقيق والتمحيص من المواطن العادي، ولكن على الأقل محاكاة عقلية بسيطة، لنسقط ما نراه على الواقع، أو ما حولنا، وكيف يعرض وفق الوجهة التي تبنّته أو نقلته، فإذا كنَّا اثنين في زيارة لبيت شخصٍ عاديٍ فكلٌ منَّا سيخرج بوجهة نظرٍ قد تكون متناقضة، فكيف بخبرٍ صحفي، أو صورةٍ أو قصّة محبوكة من جهةٍ ما وفقًا لرؤاها وأفكارها والهدف من نشرها، فالتفكير بالمعلومة التي قد تكون خالية من قيمةٍ تضاف إلى معلوماتنا، فنحن ندفع الثمن، على الأقل قيمة الوقت الذي نقضيه ساعات تلو الأخرى خلف شاشات الهاتف النقّال دون جدوى أو فائدة، إن لم تكن السبب في دخولنا في نوبة اكتئاب، أو تطرّف، أو كرهٍ أو حقدٍ وفي أفضل الأحوال تصيبنا بتشنّجٍ عصبي وتوتّر نفسي دون أن ننتبه لأنفسنا.

الأمر على بساطته جلل والأمر مهيب لنتخيّر ما نسمع ونشاهد ولنتوقّف عن الإيمان المطلق بلا حدود ومنح المصداقية التامة لما نتجول به من صفحات ومواقع عبر شبكة الإنترنت، لنرقى إلى الثمن الذي ننفقه في تلك المعلومات في البحث عما يغذّي الفكر ويزيد الثقافة لا يضيع الوقت ويشنّج الأعصاب. فلا نصدّق كل ما نرى أو نسمع إلا بعد تدقيق وتمحيصٍ وتأكّد.  

*كاتبة سورية

تعليق عبر الفيس بوك