فلسطين وازدواجية المعايير

حاتم الطائي

لم تكن القضية الفلسطينية غائبةً يومًا عن الوعي الجمعي العربي؛ إذ ظلت مُتربعة على قمة القضايا والملفات العربية، وراسخة في الوجدان الشعبي، فمنذ الصغر والجميع يُردد "فلسطين داري ودرب انتصاري"، و"يا زهرة المدائن" ومن فينا لم يقرأ "بكيتُ حتى انتهت الدموع" لنزار قباني، وغيرها الكثير من القصائد والأغاني التي تُمجّد الحق الفلسطيني، وهو ما يُؤكد أنَّ قضية العرب ظلت محتفظةً بمكانتها السامقة في نفوس كل من آمنوا بها، وفي كل مرة يتبجح فيها الاحتلال الإسرائيلي ويفرض القوة الغاشمة ضد المدنيين العزل، تتأجج المشاعر العربية وتنتفض نصرةً لفلسطين، ودعمًا لأبطال المقاومة، في أكثر قضية تعرضت للظلم الدولي على مُختلف الصُعد.

فقبل أيام تعرض مخيم جنين للاجئين لمجزرة جديدة راح ضحيتها 10 شهداء فلسطينيين، إثر توغل قوات الاحتلال الإسرائيلي بكل وقاحة وتنفيذ عدوان عنيف بالقصف المدفعي والصاروخي والرصاص العابر للجدران، وغيرها من آلات ومعدات الحرب القذرة التي يشنها الاحتلال بين الفينة والأخرى، وسط صمت دولي مريب، يؤكد ازدواجية المعايير الغربية التي تسمح بانتهاك حقوق الفلسطينيين وقتلهم بدم بارد، وهدم بيوتهم دون جريرة، وتشريد أطفالهم، واعتقال رجالهم، والاعتداء على حرمة منازلهم، وسلب حُرياتهم، وغيرها من الأعمال الشنيعة التي يغض الغرب والولايات المتحدة الطرف عنها، بينما إذا غضب فلسطينيٌ وأقدم على تنفيذ عملية للثأرِ من الهمجية الإسرائيلية، تتوالى بيانات الإدانة والاستنكار والرفض! وكأنَّ الدم الفلسطيني مُستباح، وكأن الحق الفلسطيني لا يجد من يقف وراءه، وكأن فلسطين مُقدرٌ لها أن تظل رهينة للتآمر الغربي والخذلان العالمي!

لكنَّ الشعب الفلسطيني المجاهد لم يدم صمته طويلًا، فانفجر الغضب العارم في صورة عملية القدس التي أدت لمقتل 8 إسرائيليين، وكان ذلك أمرًا متوقع الحدوث، في أعقاب مجزرة جنين وقبلها الاقتحام المُشين لباحات المسجد الأقصى المبارك والذي قام به إيتمار بن غفير وزير ما يُسمى بـ"الأمن القومي" لدى حكومة الاحتلال الإسرائيلي، وأشعل موجة غضبٍ في أنحاء فلسطين، وفي العالمين العربي والإسلامي، فضلًا عن التنديد العربي والدولي لمحاولات العبث بالوضع القائم للمقدسات في القدس المحتلة. وقد تلى ذلك تدنيس شرذمة من عناصر الاحتلال الإسرائيلي لباحات المسجد الأقصى مع التقاط صورة جماعية، ما زاد من مشاعر الغضب في نفوس الفلسطينيين.

الوقائع عديدة وكثيرة ومتكررة، منذ نكبة فلسطين في عام 1948، وما تلاها من معارك وحروب، ومجازر راح ضحيتها الآلاف من الشعب الفلسطيني المُقاوِم، صعدت أرواحهم إلى السماء، بينما يواصل الإسرائيلي صلفه وعدوانه الغاشم ليل نهار، دون محاسبة دولية، ودون بيان إدانة واحد من الغرب وأمريكا لعمليات القتل المُباح للفلسطينيين. وكم من روحٍ فلسطينية ارتقت للشهادة والعالم يُغمض عينيه ويصم آذانه عمَّا يحدث.. هل نتحدث عن الطفل محمد الدرة، أم الشيخ القعيد أحمد ياسين، والإعلامية شيرين أبوعاقلة، والطفلة إيمان حجو والطفل ريان ياسر سليمان والطفل غيث يامين والطفل حمزة نصار والطفلة آلاء قدوم، وغيرهم الكثير من أطفال فلسطين، ولنا أن نعلم أن السلطات الفلسطينية أحصت استشهاد 1000 طفلٍ منذ عام 2008 وحتى عام 2022، ثلثهم استشهدوا خلال العدوان الإسرائيلي على غزة في 2008، وأكثر من نصفهم (نحو 546 طفلًا) في العدوان الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزة في 2014 والذي دام لأكثر من 50 يومًا.

نحن إذن أمام سلطة احتلال وقحة تمارس أبشع أنواع الاغتيال بدم بارد وتنفذ عمليات القتل الممنهج وترتكب المجازر الواحدة تلو الأخرى دون رادع، وذلك لأنَّ المجتمع الدولي صار ألعوبة بيد الولايات المتحدة، التي ترغب في إبقاء الوضع الراهن دون تحقيق السلام الشامل والعادل الذي يتطلع له الفلسطينيون والعرب.

المؤسف أن هذا الاحتلال الفاجر قد يرتكب خلال الساعات القليلة المُقبلة عمليات هدم لمنازل الفلسطينيين واعتقالات عشوائية لأسر منفذي العمليات، وربما اغتيالات مُباشرة للفلسطينيين العُزُل المدنيين، وقد يحدث ما هو أسوأ من ذلك، ونستيقظ على اقتحام إسرائيلي للضفة أو شن غارات على غزة الصامدة، عندئذٍ لن نرى تلك الإدانات الغربية والأمريكية، ولن نسمع صوت الأمم المتحدة تطالب بضبط النفس، ولن نقرأ عن نية الغرب استئناف مفاوضات السلام، لأنه قُتل ووُئد قبل أن يُولد!

ويبقى القول.. إنَّ ما يتجلى من تباين في المواقف وازدواجية في المعايير عندما يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية وقتل الأبرياء العزل، يؤكد الحاجة الماسّة لقيام نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب والقوى الفاعلة فيه، وتنتهي معه حقبة القطب الأوحد؛ كي نستطيع أن نحلم بأن سلامًا قد يحل، وأن استقرارًا قد تنعم به الشعوب المستضعفة، وأن ضوء الفجر إيذانٌ بميلادِ صبحٍ جديدٍ، تنتصرُ فيه قيمُ الخير على الشر، وتعلو فيه روحُ النصر على الهزيمة، وتزدهر فيه مختلفُ الدول لا عددَ قليلًا منها.. عندئذٍ سيكون عالمنا في أفضل حال.