أسطورة "زمن الطيبين"

 

مرفت بنت عبدالعزيز العريمية

قلتُ لنفسي ليس الذنب ذنبي.. إنِّه ذنب الذي ألقى النفاق والغش والخديعة في النهر.. ماذا يفعل ذو مروءة بين أهل الخداع.. في أرض النفاق؟

هذه العبارة مُقتبسة بتصرف من رواية "أرض النفاق" ليوسف السباعي، التي تعد من الروايات الاجتماعية المهمة التي تطرقت إلى مسألة الأخلاق والتغير القيمي بالمجتمع، من خلال شخصية مسعود الذي جسده سينمائيا الفنان فؤاد المهندس، الذي كان يُعاني من صعوبة التأقلم مع المجتمع وفق مبادئه. وفي أحد الأيام أثناء سيره، وجد محلًا لبيع الأخلاق، فيدخله باحثًا عن حل لمشكلته. وقرر مسعود شراء الشجاعة وبعد أن تناولها وقع في مشكلات كبيرة، نظرًا لأنَّ الشجاعة تتطلب المواجهة والمصارحة، فيقرر أن يبدلها بالمروءة، لكن المشكلات لا تتوقف والمواقف الصعبة تزيد، وتستمر الأحداث حتى يشتري مسحوقًا مركزًا من الأخلاق يرميه في النهر فتزيد المشكلات في المجتمع والمشاحنات، لأن الناس اعتادت النفاق والمجاملات، وبعد سلسلة من الأحداث، يُغلق المحل لعدم وجود الأخلاق!

قالب خيالي مبدع، صاغه الكاتب يوسف السباعي، الذي قارن بين وجود الأخلاق في الواقع والخيال في مكان سمّاه أرض النفاق، هذه الراوية التي صدرت عام 1949 طرحت موضوع الأخلاق وإشكاليته في المجتمع في فترة الأربعينيات من القرن الماضي. إذن.. إشكالية الأخلاق ليست وليدة اللحظة وليست قضية جديدة كما يتصور البعض، فهي موجودة بوجود الإنسان والخير والشر؛ فالحياة عبارة عن تناقضات كوميدية سوداء، وهي ليست مثالية، وإن كان البعض يؤمن أنها مشكلة جديدة، وإن المجتمعات القديمة كانت مثالية، ولا تعاني من غياب القيم والأخلاق، فعند الحديث عن الماضي وحكاياته يتطرق البعض إلى ما يسمى بـ"زمن الطيبين"، ويقارن بين حياة الأولين المثالية وبين واقعنا المر، على اعتبار أنَّ فساد الأخلاق أمر مستجد، ولا أدري كيف يتصور البعض أن الحياة هي سلسلة من الأحداث الجميلة خالية من المنغصات، أكانت حياة الأولين شبيهة بالمدينة الفاضلة كما رآها الفارابي أم يوتوبيا أفلاطون؟

شخصية مسعود، شخصية تعيش معنا في كل زمان ومكان، وفي كل مجتمع هناك من يواجه مشكلات التأقلم مع المجتمع، أو يرفض تقديم التنازلات فيخسر الفرص لصالح القيم. لكن لماذا هي واضحة أكثر الآن؟ الإجابة بسيطة: لأن العالم أصبح قرية صغيرة والأخبار تتناقل بسرعة البرق من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، ووسائل الإعلام والسينما وشبكات التواصل أصبحت بلا رقابة والأمر متروك للفرد يختار ما يشاء.

الأخلاق كمفهوم عبارة عن منظومة قِيميّة، يراها الناس على أنها تنشر الخير، وتطرد الشر أي أنها مجموعة من المبادئ والقيم، تحرك أفراد المجتمع، وتمثل مرجعية للشعوب في مختلف الأزمنة، وأي فعل سيئ يعد غير أخلاقي، بالتالي فالمفهوم قد أصبح واسعًا ومتغيرا. يقول الدكتور غازي القصيبي "إن التخصص الوحيد الذي لا يدرس في الجامعات، هو الأخلاق فقد يحمله عامل النظافة ويفتقده دكتور". هذه مقولة عميقة تعكس الواقع، ولا أعلم لماذا لا تُدرس الأخلاق في البيت والمدرسة والجامعة، ما الضير من تعليم الأخلاق؟ لماذا لا تكون هناك فعاليات أخلاقية تروج للقيم والأخلاق والسلوكيات الحسنة وتذكر الناس بها بأسلوب سلس حديث يتوافق مع طبيعة العصر، بدلا من الترفيه الخاوي من المعنى!

في السابق وفي القرى والأحياء، كان الجميع يقوم بدوره في التوجيه الأخلاقي والسلوكي من الأسرة الصغيرة إلى الأسرة الممتدة إلى الجيران والمعلم. أما اليوم فترفض الأسر أن تتولى المدرسة مهمة التربية أو التوجيه، في المقابل لا تقوم الأسرة بدورها في التربية السلوكية؛ فيصبح الطفل كالوعاء الفارغ الذي يملؤه الأقران ووسائل الاتصال والإعلام والمجتمع بكوكتيل من الأفكار، والسلوكيات، وعند وقوع الشاب أو الشابة في مشكلة أخلاقية الكل يتبرأ من مسؤولياته.

المظهر هو الشغل الشاغل لكل أفراد المجتمع، ينفقون مبالغ ضخمة حتى يظهرون بصورة جميلة، ويدفعون الآلآف لعملية جراحية لتجميل الأنف أو الجسد، فعمليات تجميل المظهر رائجة وبقوة، ناهيك الاهتمام بالمظاهر والشكل الاجتماعي، في مقابل ذلك لا نرى نفس الاهتمام بتجميل الروح والسلوكيات الأخلاقية، وتخصيص حملات وبرامج ومناهج تعليمية، من مرحلة رياض الأطفال حتى انتهاء مرحلة المراهقة تعنى بالأخلاق والقيم، وهذا يؤكد أن المجتمع لا يرى أهمية في تعليم الأخلاق، مثلما فقد المعلم أهميته حتى أصبح مدرسا يدرس فقط ولا يربي، وتحول الحكيم إلى مجرد طبيب يعالج النتائج، ولا يبحث في أسباب المرض.

نعم ضروري أن نتحلى بالأخلاق والقيم، لكن لا يمكن الجزم بأن الجميع يتفق معنا في هذه النقطة؛ فالبعض لا يرى أن الأخلاق ضرورية، وتعتبر ضربًا من ضروب التزمت والتخلف، لأن الحياة تتطلب مرونة وتنازلات! إنها أزمة أخلاق، وأزمة مفاهيم بين الصح والخطأ، وبين حدود الممكن وبين غير الممكن، إننا نواجه مشكلة تحديد ماهية الأخلاق والشكل المناسب للقيم الأخلاقية التي يجب أن تنظم السلوك المجتمعي.

إنَّ انهيار أي مجتمع يبدأ بالانحلال الأخلاقي والقيمي وتطبيع السلوك السيئ، فالانحدار الأخلاقي يُهدد أمن المجتمع؛ فالمجتمعات التي لا تعير اهتمامًا للأخلاق، تنتشر فيها الكراهية، والعنصرية، والظلم الاجتماعي، والتعصب، والجريمة، والخروج عن القانون، وجرائم الاحتيال، والتراخي في تطبيق القانون، وتبرير الانحراف السلوكي تحت غطاء الحالة النفسية أو الجهل بالشيء، واستباحة حقوق الآخرين.. الكثير من السلوكيات المنحرفة أخلاقيًا، واضحة ومنتشرة في معظم المجتمعات وبنسب متفاوتة.

في السنوات العشرين الأخيرة تداركت بعض المجتمعات، وحاولت تصحيح المسار بعدما توصلت إلى ان الانحلال الأخلاقي يكلف الدول ميزانيات ضخمة، بسبب انتشار الرشوة والغش والجرائم وغيرها من السلوكيات غير الأخلاقية؛ فبدأت في تعليم الأخلاق في المدارس وبناء مواثيق أخلاقية للمهن والوظائف.

إنَّ الأخلاق السليمة تحقق السلام للفرد والمجتمع وتهذب السلوك والروح والعقل، ولن نستطيع معالجة مشكلات المجتمع الاجتماعية والاقتصادية، دون العودة إلى نقطة البداية وهي التربية الأخلاقية، فأي خطط أو جهود ستضيع كتسرب الماء من جوف القربة التالفة.