ألفيت كل طريقة لا تنفع

 

د. سليمان بن خليفة المعمري

 

من المعلوم أن المال نعمة وأن المادة عصب الحياة بها يقضي الإنسان الكثير من احتياجاته ومتطلباته اليومية، وتسهم في التنمية والرفاه اللذين يسعى لتحقيقهما في حياته، إلا أن المتأمل في واقع حياة الناس اليوم يدرك أنَّ "الماديّة" أصبحت تحكم الكثير من العلاقات الإنسانية، وأضحت لغة المصالح التي كانت في السابق حكرًا على السياسة والسياسيين هي المنطق نفسه الذي يحتكم إليه النَّاس في شتى مناحي حياتهم؛ بما في ذلك العلاقات التي تتسم بالخصوصية كالعلاقات الأسرية، فصار الزوج والزوجة كل منهما يُحاسب الآخر على الفتيل والقطمير، فالزوج يُعدد ما قدَّمه وأسداه لهذا الكيان المقدس والزوجة تحاسب زوجها على كل تضحية وخدمة قدمتها في سبيل خدمة وإسعاد أسرتها، متناسين التوجيهات الربانية الكريمة التي خصَّت هذه العلاقة دون سواها من العلاقات بما يليق بها وتستحقه من الطهر والقداسة من مثل: "وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُم"(البقرة، 237)، "وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا"(النساء: 20)، "وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" (التغابن، 14)، وغيرها من الآيات والإرشادات الإلهية الكريمة التي من شأنها حفظ الكيان الأسري وسلوك نهج التسامح والمحبة والوئام، وخفض الجناح لذوي القربي وكل من تربطنا بهم علاقة إنسانية بعيدا عن الاعتبارات المالية الضيقة.

إلا أنَّه ونتيجة سيادة النظرة المادية البائسة لدى البعض أصبحنا نسمع ونرى ما يشيب له الولدان مما يدور في أروقة المحاكم حول قضايا وحالات ذات طابع "مادي" صرف؛ بل تعدى الأمر إلى ما هو أكبر وأشنع وأفظع؛ إذ ارتكبت جرائم قتل بشعة باسم "المادة" أو "الفلوس التي أعمت النفوس"، فأقدم البعض على إزهاق الأنفس والأرواح ليبوؤا بغضب الجبار ويقعوا في لعنة المنتقم جلَّ جلاله وسخطه "وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا" (النساء، 93)، فأي قلوب هذه وأي نفوس تلك التي استسهلت القتل والإجرام تحت حجج ومُبررات مادية مقيتة.

الحقيقة أن تغول المادية والتهامها القيم النبيلة لدى الإنسان واستحواذها على فكره وعقله من شأنه أن يورده موارد الهلاك ويجعله يعمى عن كل طريق سليم وتعامل رشيد مع مشاكل وتحديات الحياة وتجسير علاقاته مع الآخر، وفي هذا المقام يذكر هاري في" إخفاق التواصل" تأثير المادية على القيم الأخرى بتصور مجموع القيم في حياة الإنسان بقالب من الحلوى، بحيث كل قيمة تمثل قطعة منها، فهناك قطعة للقيم الروحية وأخرى لقيم العائلة وثالثة لقيم المادة، وأنه كلما زاد حجم قطعة معينة أدى إلى نقص القيم الأخرى، وبالتالي فإذا كان اهتمام الإنسان موجهاً إلى زيادة مقتنياته ومركزه الاجتماعي ونحوه فإنَّ القيم الأخرى كالعلاقات الاجتماعية سوف تتقلص، والواقع أنه نظرا للنزعة الاستهلاكية التي تسم هذا العصر فإن "الاكتفاء" و"الرضا" أصبح غير ممكن، وبات الإنسان يطلب المزيد من الماديات ووسائل الرفاهية التي تطالعنا كل يوم  وبلا توقف بالجديد في صرعات وموضات لا تنتهي، ليبقى الإنسان في وضع لهاث ومطاردة دائمين، وصدق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم  في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه: "تَعِسَ عبدُ الدِّينَارِ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ الخَمِيصَةِ، إنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وإنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وإذَا شِيكَ فلا انْتَقَشَ.."( رواه البخاري).

ولعل مما أجج أوار المشكلة المادية في حياة الناس تراجع المحاضن التربوية كالأسرة والمدرسة والمسجد عن أدوارهم الأصيلة وإفساحها المجال لتأخذ وسائل التواصل الاجتماعي بما تقدمه من أدوار هابطة ومشاهد مبتذلة وتسطيح وتهميش للقيم النبيلة، وتضخيم القيم المادية من مقتنيات ومشتريات وتصويرها بأنها سر السعادة والهناء، ما جعل الكثير من المربين والمصلحين يدق ناقوس الخطر لهذه الوسائل على الناشئة، ولقد شعرنا بالكثير من الإجلال والإكبار للتوجيهات السامية الكريمة لجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله- إذ أكد جلالته أعزَّه الله على ضرورة عدم ترك تربية الأبناء وتنشئتهم لهذه الوسائل، وأن على محاضن التربية الأصيلة كالأسرة والمدرسة أن تأخذ على عاتقها الأدوار التربوية المنشودة تجاه أجيال المستقبل.

والحق أنَّه ما لم تقم الأسرة وكافة المؤسسات التربوية الأخرى بدورها المأمول في توجيه الشباب وتوعية الناس وتثقيفهم نحو التعامل الرشيد مع الأمور المادية، والتأكيد على ضرورة تراجع القيم المادية لحساب القيم الإنسانية النبيلة الأخرى فتحتل مكانة الصدارة بدلا عنها قيم الأخلاق والحق والفضيلة والحب والجمال، وإلا فإنَّ مُعاناة البشرية وفواجعها وجراحاتها ستبقى تنكأ بين حين وآخر، وستظل الجرائم التي ترتكب بين فترة وأخرى حيوانية بالمعنى الحرفي للكلمة، وعندها لا يُمكننا إلا أن نستعير بيت الهذلي الجميل ونعدله مع الاعتذار:

وإذا المادية أنشبت أظفارها // ألفيت كل طريقة لا تنفع

تعليق عبر الفيس بوك