أقطار الخليج وولوج المستقبل

 

علي بن مسعود المعشني

ali95312606@gmail.com

يقول الزعيم الصيني ماو تسي تونج: "هناك دائمًا حركات صغيرة غير مرئية في التاريخ، تكون سببًا في تغيير مجرى التاريخ".

ويحدثنا التاريخ أنَّ هناك دائمًا خللًا بين الأهداف والنتائج، وهذا الخلل هو ما يُفرز في الغالب وقائع ونتائج ومُعطيات أقرب ما تكون إلى الغنائم والفرص الذهبية لمن خارج الهدف والمشهد، لإعادة إنتاج أنفسهم والتموضع في المواقع التي تليق بهم وتلبي مكانتهم.

كثيرة هي الأمثلة في التاريخ البعيد والأوسط والقريب التي تبرهن على صواب قراءة الزعيم الصيني ماو، والتي تبرهن كذلك على وجود الخلل الدائم ما بين الهدف والنتائج.

في 28 يونيو 1914، قام الشاب الصربي قافريلو برينسيب بتنفيذ عملية اغتيال الأرشيدوق فرانز فرديناند الوريث المفترض لعرش النمسا/ المجر وزوجته صوفي في سراييفو، كان الهدف السياسي من الاغتيال هو تحرير سلاف الجنوب في النمسا/ المجر ليتمكنوا من الانضمام إلى يوغسلافيا، وكانت نتائج عملية الاغتيال بشكل مباشر اندلاع الحرب الأوروبية (العالمية) الأولى وما تلتها من تداعيات كارثية على أوروبا والعالم أجمع.

والحرب المفتعلة من الغرب في أوكرانيا اليوم- بتقديري- هي بمثابة "عملية سراييفو" مع اختلاف الزمان والمكان؛ فأولى النتائج المرئية للعيان لهذه الحرب هي إعادة تشكل واصطفاف العالم مجددًا إلى تكتلات ومحاور ودون ضجيج، وعودة ملامح الحرب الباردة مجددًا، ولكنها هذه المرة بين معسكرين مختلفين، وهما معسكر "قوة القانون" والذي يمثله ويتزعمه الروس اليوم، ومعسكر "قانون القوة" والذي تمثله أمريكا منذ نشأتها ويتبعها الغرب المُكبل بمشروع مارشال الأمريكي منذ عام 1947.

ما يهمنا في هذه المقالة هو مضمون عنوانها وهو كيف يمكن لأقطار الخليج العربية أن تلتقط هذا الظرف التاريخي وتستفيد من الخلل ما بين أهداف الحرب في أوكرانيا ونتائجها الحتمية القريبة والبعيدة؟!

المطلوب من أقطار الخليج اليوم أن تكتشف نفسها وأن تعلم ممكناتها لتعيد إنتاج مكانتها في المشهد الإقليمي والعالمي، وفق مقدراتها وقدراتها الحقيقية دون إفراط ولا تفريط.

فيما مضى من الزمن، كانت أقطار الخليج تحقق مصالح الغرب في العالم بطلاء براق عنوانه "حلفاء ومحاور"، وكان الغرب يُسوِّق نفسه بأنَّه الحامي لأقطار الخليج، ونحن صدقنا هذه الخرافة دون أن نسأل أو نتساءل ممن أو ممَّ يحمينا الغرب؟! ومن هُم الأعداء الحقيقيون لنا؟! ولم نكتفِ بتصديق وتطبيق هذه الخرافات السياسية فحسب؛ بل أقعدتنا حتى عن مُمارسة أبسط مناسيب سيادتنا ومصالحنا، وأظهرتنا كأقطار وشعوب لا تفقه أبسط قواعد السيادة ولا أبسط قواعد المصالح والعلاقات الدولية.

اليوم.. نعيد اكتشاف أنفسنا، وبالضرورة سنعيد إنتاج وتسويق أنفسنا للعالم، وفق مصالحنا ووفق مقتضيات قواعد السياسة، وهذا يتطلب منِّا إعادة تعريفنا للحلفاء والأعداء والمصالح والتطلع إلى ولوج المستقبل وعدم تقديس الماضي والعيش على الموروث بغثه وسمينه.

من الضرورة أن تُفكِّر أقطار الخليج اليوم أكثر من أي وقت مضى، واليقين بأن البحث عن مصالحها ورعايتها لا يعني بالضرورة مناصبة العداء لأحد ولا فتح جبهات صراع مع أحد، وأن ممارسة مقتضيات السياسة لا يعني الخضوع والإذعان وتصديق مقولات البربوجاندا الغربية بأن هناك صغارًا وكبارًا في العالم، وهناك حماة وغزاة!!

أقطار الخليج مُمكناتها كثيرة وكبيرة، وتتعدى النفط والغاز، في حال توفرت الإرادة السياسية للنهوض وتوظيف المقدرات والقدرات؛ حيث يُمكن لهذه الأقطار أن تشكل تكتلًا اقتصاديًا محوريًا للعالم؛ بفضل الموقع الجغرافي والوفورات المالية الهائلة في صناديقها السيادية، شريطة أن تتحلى بالواقعية المقرونة بحُسن التدبير، وأن تتخلص من جذور الموروث السياسي المقرون بالمشاحنات والتنابز فيما بينها أولًا، وفيما بينها وبين دول جوارها الحيوي والمتمثل في اليمن وإيران والعراق ثانيًا، وأن تنظر للمستقبل بعين المصالح وما تقتضيه قواعد السياسة ومفردات الأمن القومي والإقليمي للمنطقة برمتها، فلا اقتصاد بلا استقرار، ولا استقرار بلا جوار حيوي متصالح، والمصالح هي ما توجه السياسات وتوحِّد الرؤى، خاصة وأن العالم يشهد اليوم تحولات سياسية واقتصادية كبرى، بعضها تجري بصمت والآخر بضجيج صاخب.

وأكثر التجارب إثمارًا ونجاحًا في عالم اليوم هي الاقتصادات البينية، والمتمثلة في التعاون والتكامل البيني الإقليمي، من سياحة وتجارة ونقل... إلخ؛ كونها الأقل كُلفةً والأعظم عائدًا، خاصةً في ظل التكامل والتوافق ما بين الجغرافيا والديموغرافيا والثروات الطبيعية والبشرية.

قبل اللقاء.. كل إنسان في حقيقته اثنان، هو، وما يُمكن أن يكون، وكذلك الدول والشعوب. وبالشكر تدوم النعم.