البرّ بأشكاله

 

أمينة أحمد **

في بيتهم الشامي العريق المُتميّز باتساعه وعراقته وسطحه المستندٍ على أعواد خشبية، يبدأ الصباح بدلّة القهوة عند البحرة في (أرض ديار) التي تتوسّطها بحرة ماء يطفو على سطحها الحب والورد والياسمين وترتسم على تموّجاتها الأشجار المُتدلّية حولها، ليعلو صوت الأم وهي تنادي أبناءها فيتسارعون لتقبيل يد الأب والأم وطلب الرضا والتوفيق ليبدأ اليوم بسعادةٍ ونشاطٍ وحيويةٍ وخيرٍ يعمّ الجميع دون استثناء.

إنّها عادات جميلة جداً، تتجلّى في رضا الله وطاقة الوالدين واحترامهم وتنفيذ أوامرهم دون أدنى اعتراض، هذه هي البيئة الشامية لسنواتٍ خلت، فإذا دخل الأب وأولاده جالسون ينتفضون قياماً محبةً وتعبيراً عن احترامهم له وقدسية وجوده في حياتهم، ولو الأب اختار زوجاً صالحاً لابنته لنفذّت دون أدنى اعتراض، لأنّها تعتبره الأدرى بمصلحتها فهو سندها وعضدها ولن يختار لها إلا الأكفأ، وغالباً هو من يختار المهنة الأنسب لابنه، طبعاً لا تخلو بعض الأمور من استثناءات، فبعض الأبناء إذا ما عارض أباه أمام قرارٍ فإنَّ لذلك عواقب وخيمة وهنا يبدأ الخلط بين الرضا والحُرية الشخصية، بين الاحترام والانصياع لأوامر الأب ولو كانت غير صحيحة، نتيجة الاختلاف في الرؤى والأفكار وحتى الجيل بين الأب والابن، بين جيلٍ يعتبر قديماً وجيل عاصر تقنيات الحاضر مثقّف واعٍ متعلّم، تختلف الآراء والأفكار ولكن الرضا يبقى على حاله.

إنه الرضا يا سادة يا كرام، الرضا عن النفس أولاً بأنها تصنع ما بوسعها من خير لأجلها ولأجل الآخر، الرضا عن إنسانيتنا بتعاملنا مع الأهل والأقارب والأصدقاء بعيدًا عن الأحقاد والعتاب والمهالك.. الرضا عن عملنا وإتقانه.. الرضا بقضاء الله وقدره.. ويبقى رضا الله والوالدين الأعم والأشمل.. أكرمنا الله بهما، وقد قال الله تعالى في الذكر الحكيم "وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا" وهنا نقف عند الإحسان للوالدين والذي يتضمن الأقوال والأفعال والحركات والسكنات والإنفاق عليهما وعدم جعلهما في حاجة أي إنسان.

فهل تغير معنى الرضا في عصرنا الحالي؟ للرضا ألوان وأطياف تختلف باختلاف الزمان والمكان؟ وكيف يمكن أن نعرف الرضا عند أبنائنا في عصرنا الحالي!؟ هل نقلنا صورته لأولادنا على أكمل وجه كما كنَّا مع آبائنا؟

نعم تغيَّر لونه وشكله وأخذ أبعادا ومعاني جديدة في حياتنا الحالية لكن المضمون واحد مع إعطاء الأبناء هامش من الحرية والتعبير.. هامش من مسافة الأمان ليدلو كل منهم بدلوه الذي تعلّمه في المدارس والجامعات وحلقات العلم وما اكتسبوه من خبراتهم الحياتية ومواكبتهم للتطورات الحياتية الطبيعية، وربما نختلف معهم بالآراء والمواقف ويكونون هم على صواب.. هذا لا يعني أن نقلل من احترام الوالدين ولا نقول إلا ما يرضي الله بأن طاعتهم ورعايتهم هو سر توفيقنا وسعادتنا في الدارين.. ولكن علينا أن نفصل بين التسلّط الأبوي ورضا الله فيهم، إنّه أمر مهم يحتاج للكثير من النقاط التي يجب الاتفاق عليها:

أولها: أن حياة أبنائنا المعولمة والمواكبة للتطوّرات التقنية والتكنولوجية والعالم الافتراضي، تختلف عن تلك الحياة التي عاشاها،

ثانيها: أن نحترم ما يقولون ويعملون كونه لا يخالف تعاليم ديننا الحنيف، يجب أن نعلم أن ليس كل الآباء ملائكة منهم من يفني عمره لجعل أبنائه الأفضل ومنهم من يتهرب من أدنى مسؤولياته تجاههم، ومنهم من يجعل الرضا عصا يقصم بها ظهر أبنائه.

ولنعلم أن برّ الأولاد أمرٌ واجب على الآباء، وأن لا نطلب منهم فوق قدراتهم في الطاعة.. لنترك لتلك العلاقة الأبوية الصيغة الإنسانية التي تتجلى بالأخلاق الحميدة وحسن المعاملة وطيب الكلام وأجمل المشاعر لأن يكونوا شركاء في حياة والديهم.. هذه الحياة التي دعوهم إليها ليحملوا لقب الأب والأم.

لنترك عقلية الأيام الشامية القديمة في تعاطينا مع فكرة الأبوة الرائعة بتفاصيلها الصغيرة والكبيرة. ولنزرع فيهم خيراً وأملاً ومن ثم نحصد برّا ملء السموات والأرض بعلاقاتنا الإنسانية.

** كاتبة سورية

تعليق عبر الفيس بوك