استراتيجية جودة الحياة

 

مرفت بنت عبدالعزيز العريمية

عند الحديث عن التنمية البشرية يتبادر إلى أذهاننا فن الثقة بالنفس، كيف تكوّن ثروة من الصفر؟ كيف توقظ العملاق الذي بداخلك؟ كيف تصبح جذابًا؟ وغيرها من البرامج والدورات المتداولة، التي يتصور البعض أنها الحل لكل المشكلات.

المشكلات التي نعانيها كمجتمعات أكبر من حلها في برامج تدريبية أو مؤتمرات وندوات أو توصيات، حتى إن كانت البيئة مناسبة للتطبيق، فإنَّ التغيير لا يحدث بين عشية وضحاها، التغيير يتطلب الصبر وبذل محاولات مستمرة لقياس الأثر وتحقيق النتائج والأهم من ذلك كله الرغبة في التغيير. وكغيره من المجالات، لم يسلم مجال التنمية البشرية من برامج تجارية، تاجرت برغبات الحالمين، برامج لا تقدم معرفة حقيقية أو مهارات؛ بل اختارت العزف على أوتار المشاعر وبيع الوعود والحلول المثالية، فقد كثر المدربون في هذا المجال وتعددت مسمياتهم وألقابهم، من خبراء إلى رواد في التنمية البشرية، الذين يروجون لعناوين رنانة تأسر العقول المحبطة، بأفكار قد تبدو واقعية أثناء البرنامج التدريبي، وتطبيقها سهل إلا أن الواقعية تقول أن لا حياة مثالية، والنظريات أيًّا ما كانت لا يمكن تطبيقها كما هي، بمعزلٍ عن العوامل الداخلية والخارجية التي قد تُعيق محاولات التطبيق.

من المهم أن نفرّق بين البرامج الزائفة، والبرامج التطبيقية التي تعلم المهارات، وطرائق التفكير العلمي، وإدارة المشكلات، والوقت، وإدارة الشؤون الحياتية، وغيرها حتى لا نقع في فخّ التزييف.

إن برامج وكتب التنمية البشرية غير كافية لتغيير الإنسان من حال إلى حال، كأنها العصا السحرية لتحقيق الأماني، والواقع يقول إنَّ هذه البرامج أعدّت لتنشيط الذاكرة، وتحفيز الموارد البشرية وتقديم جرعة مكثفة من الأمل لا أكثر ولا أقل؛ فالتنمية البشرية مشروع تكاملي ضخم وعملية مستمرة، تحتاج إلى تكاتف الجهود بين كل مؤسسات في المجتمع بدءا من مؤسسة الأسرة.

منذ القدم، بدأ الاهتمام بالتنمية البشرية وليس وليد اليوم؛ لأن تطور الفرد يعني تطور الأسرة والمجتمع والاقتصاد والكوكب من بعده، ويرى البعض أن رواج برامج التنمية البشرية، جاء بعد الحرب العالمية الثانية، عندما أرادت الدول الخروج من حطام الحروب، والبناء من جديد، فكان لا بُد من وجود دورات وبرامج تحفيزية، تنمّي الأفراد وتمنحهم جرعات من النشاط والتفاؤل، كي تصنع كوادر بشرية مدربة ومؤهلة لإدارة الاقتصاد.

في البداية، كانت التنمية البشرية تقتصر على تحقيق أعلى معدل لجودة الحياة، من تحسين الظروف المعيشية والصحية والتعليمية، وفي التسعينيات تمت إضافة مفاهيم تطوير الذات وتنمية الإبداع والابتكارواكتساب المعارف والحريات.

المجتمعات لا تعمل بدون رأس مال بشري، قوي ومنتج، قادر على العطاء والصمود، في وجه التحديات المختلفة؛ فالإنسان هو الغاية من التنمية، ولا تنمية بدون إنسانٍ سويٍّ يمتلك مهارات حياتية متنوعة.

مع تعدد عناوين برامج التنمية، إلا أنها في الأغلب تدور حول تغيير السلوك الإنساني، وتطوير المهارات الفردية من أجل مُستقبل المجتمع ورفعته؛ لذلك قامت بعض الدول بإطلاق مبادرة وطنية لتنمية الموارد البشرية على الأصعدة كافة، من منطلق أن المورد البشري هو الثروة الحقيقية وتطويره لا يكون بدورات تدريبية فقط؛ بل يشمل تحسين حياة الفرد وتحقيق قدر من الأمان والاستقرار المادي والنفسي.

الاستراتيجيات المتكاملة التي تعمل بشكل متّسق هي التي تحدث التغيير؛ لذلك هي عادة ما تكون ضمن مبادرة وطنية، تشمل تطوير كافة مجالات الحياة من صحة وتعليم وثقافة ورياضة واقتصاد.. وغيرها، أصبح العالم يتجه إلى استراتيجية لتحسين جودة حياة الأفراد والأسر، وتوفير بيئة صحية مناسبة للحياة والعمل والإنتاج، بيئة توجد بها كافة الخدمات وتولد الفرص والوظائف التي تحقق التنويع الاقتصادي، حتى يستطيع الفرد المشاركة في التنمية ويحظى بحياة متوازنة تساعده على الإبداع.

يخلط البعض بين مفهوم جودة الحياة ومستوى المعيشة، إلا أن المفهوم الثاني يركز فقط على مستوى الدخل، لكن جودة الحياة مفهوم شامل السلامة العامة للأفراد والمجتمعات. ويعني هذا المفهوم تحقيق الرضا عن الحياة، وتشمل السلامة الجسدية والنفسية والتعليم والأسرة والأمان والثروة والعمل والتوظيف والحريات والبيئة والسياسة والاقتصاد ووقت الفراغ والاستجمام...، وأية استراتيجية يجب أن تشمل تحقيق أعلى مستوى من تعزيز نمط حياة صحية للأفراد وتعالج جذور المشكلات لا نتائجها، تعزز تبني المجتمع ومؤسساتها نمط الصحة النفسية الجيدة، والتفكير الإيجابي وبناء مهارات حياتية صحيحة.

والثروة الحقيقية ليست موارد طبيعية؛ بل موارد بشرية صحية، ونحن كمجتمعات لا نحتاج إلى استراتيجية تنمية بشرية؛ بل إلى إستراتيجية جودة حياة تبني حياة سليمة وصحية، تعالج المشكلات قبل ظهورها. وجودة الحياة هي أن يُصبح الإنسان سعيدًا ويتمتع بصحة جيدة، ويستطيع أن يشارك في أحداث الحياة، وهو سعيد.

يقول وليم فوستر: "الجودة لا تأتي صدفة أبدًا، فهي نتاج نوايا حسنة، وجهد صادق، وتوجيه ذكي، وإخراج متمرس؛ فهي تمثل الاختيار الحكيم لبدائل مُتعددة".

فهل سنرى قريبا استراتيجية وطنية لجودة الحياة؟ فجودة الحياة ليست غاية؛ بل أسلوب لحياة صحية.. ودمتم في محبة.