دراسة التوجهات الاجتماعية تقود لفهم أعمق

 

علي بن سالم كفيتان

لا شك أنَّ المجتمعات البشرية تتغير توجهاتها بناءً على درجة إشباع رغباتها الأساسية، وهذا بدوره يقود لأنماط أخرى من التفكير، فليس منطقيًا أن نطلب الإبداع والابتكار والرفاه من مجتمع ينازع لإيجاد لقمة العيش الكريم وتوفير المسكن الملائم والاطمئنان على مسارات المستقبل، وليس من السهل أن يتقبل ذلك المجتمع توجهات تفوق طاقته التفكيرية والمادية والمعنوية، فجُل اهتمامه يكون مُنصبًا على أساسيات الحياة؛ مما يؤدي حتميًا لانعدم الإبداع، وهذا ما سعت له الحضارة الغربية، لتمكين سطوتها على المجتمعات الأخرى وجعلهم مجرد أسواق لمنتجاتها، وبلا شك نجحوا في ذلك، لكن الأكثر إيلامًا أن تُطبِق الأنظمة تلك السياسة بعلم أو بغير علم وتوظيفها لأهداف أخرى!

يظل علم الاجتماع السياسي ورائده ابن خلدون مادة أساسية لدراسة توجهات المجتمعات ورغباتها ودرجة حاجتها للسمو والسيادة، وهنا يجب أن نفرق بين مجتمع وآخر ومنطقة وأخرى في ذات الدولة من حيث الموجهات الاجتماعية، فليس من العدالة أن نطبق على مجتمع رعوي، سياسات مجتمع حضري، وسياسات مجتمع صناعي على مجتمع بدوي، ونتوقع نتائج إيجابية، فغالبًا نمط التفكير مختلف والأولويات لا تتفق، وهنا تكون العدالة غير عادلة، وبلا شك هناك نزعات منذ الأزل لغلبة نمط تفكير على آخر، ولكن من يسوس الجميع هو من يعلم الفرق ويستطيع المناورة ويمنح الامتيازات المتوازنة لاستمرار المسيرة. وبمرور الوقت يتقبل الجميع الاختلاف الذي يشكِّل الميزة النوعية للمجتمعات الحيَّة؛ فاختلاف الألسن واللغات والأعراق والأديان والمهن ومنح كل منها الحياد النسبي يؤدي في النهاية لانشغال الناس بما هو أهم من الأكل والملبس والمسكن، وحتى التفكير بمن سيتغلب على الآخر، إلى الإيمان بدرجة قوة ذلك الآخر، مهما كانت ضئيلة لأنها تسد فجوة مهمة لا يستطيع ملأها المكون الأقوى أو الأكثر.

في بعض الأحيان ترى مجتمعات بعينها أن العُرف أقوى من الموجهات الاجتماعية والسياسية المستحدثة، فرغم وجودها تحتكم تلك المجتمعات للأعراف، وهذا لا زال قائما ومعمولا به ونجده في بلداننا؛ حيث قام المُشرِّع بإفساح المجال للعُرف وحاول تأطير ذلك في ما بات يعرف بلجان التوفيق والمصالحة ومنح أحكامها قوة القانون غير القابل للطعن، ومع ذلك ظل العرف يعمل والناس تحتكم إليه؛ لأن العرف يمنح حق الاستئناف لدائرة عرفية أعلى، وصولًا إلى الحلقة النهائية، التي يُعد حكمها نهائيًا وغير قابل للنقض، وما دامت الأحكام العرفية لا تتعارض مع الدين أو القوانين النافذة فهي مكملة لما هو قائم.

يذكُر ابن خلدون أن مكتسبات المجتمعات الناتجة عن الثورات تمثل أصولًا لا يُمكن التنازل عنها ولا تسقط بالتقادم أو تغير الأنماط السياسية التي تحكم النَّاس، ولا يمكن حدوث ذلك إلا عبر التفاوض المباشر ومنح البدائل المُرضية، وإلّا اعتُبرت خيانة للدماء التي سالت من أجل التغيير، فمهما سكتت المجتمعات عنها تحت أي ظرف إلّا أنها تظل محفورة في داخلها وتتحين الفرصة لتطفو على السطح فجأة، وتصبح المادة الدسمة للأزمات. لذلك عمدت الأنظمة التي تقوم على ركام الثورات بالإبقاء على بعض القيم الثورية ليس محبة لها، لكن من أجل الوصول لمستوى الإشباع النفسي لمن لا زالوا منغمسين في الذات الثورية حفاظًا على أنظمتهم. وهذا يدفعنا للتفكير بجدية للتصالح مع كل ثوراتنا ونزعاتنا واختلافاتنا واحتوائها جميعًا في لوحة جميلة وجعلها جزءًا من التاريخ المشرق لبلداننا، فكلما عملنا على محايدتها عن المشهد زاد الاهتمام بها والبحث عنها؛ لأنها باختصار جزءٌ من ميراث أمة لا تختلف عن بقية أمم وشعوب الدنيا؛ فالثورة الفرنسية مثلًا قامت على مبادئ الحرية والعدالة، ورغم بعد الأنظمة التي حكمت فرنسا عن قيم تلك الثورة، إلَّا أنها أبقت عليها وظلت لها رمزيتها؛ سواءً بشكل رسمي أو داخل المتاحف وبين جنبات الكتب وأروقة الجامعات.

وفي الختام.. بات لزاما علينا أن نعظم أهمية علم الاجتماع وتوظيف قيمته العالية لدراسة التحولات التي تحدث في مجتمعاتنا من حيث مدى قبولها أو رفضها، ومعرفة نمط تفكير الناس، وألَّا يظل خريجو علم الاجتماع مجرد مشرفين اجتماعيين في المدارس والسكنات الداخلية ومجمعات العمال؛ بل جزءًا لا يتجزأ من مراكز أبحاث لدراسة المجتمع وتوجهاته وطموحاته، وحتى ألامه، وأن تُنشر تلك الأبحاث بحيادية، ويُعتد بها في دراسة التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

حفظ الله بلادي.