التفاتة على حزن نبي الأمّة

 

 

بدر الشعيلي

 

لم أفهم حزنك يا رسول الله إلا بعد أن ذقت بعضه.. لم أفهم معنى بلاءك إلا بعد أن عانيت شطره.. لم أكن أدري يومًا ما أن حزنك بلغ بك مبلغًا عظيمًا.. الطفولة التي أعيشها -وليس سني بذلك الصغر- لم تجعلني أفكر حتى في ألمك، ما كنت يومًا أحسب وأفكر في لفظة عام الحزن.. يالله ما أقسى تلك اللحظات التي عانيتها وأنت بين أهل مكة.. ترى كيف مرَّت تلك الاثنتا عشرة سنة.. كيف صبرت على تلك الدعوة السرية التي استمرت ثلاث سنوات.. لا نقدر أن نصبر على سرية شيء يرفضه الكل لمدة ثلاث سنوات.. يا سبحان من أعطاك كل هذا الصبر.. يا سبحان من أمدك بكل هذه القوة.. سبحانه سبحانه.

كنت معهم قبل البعثة الصادق الأمين.. كنت معهم الرجل الذي تسير به الركبان مدحًا.. كنت معهم الشريف المُعزز المكرم في قومك.. عائلتك من أنبل أشراف أهل مكة.. وقبيلتك من أعلى القبائل شرفا ونسبا .. لله ما أقسى هذا الاختبار الذي مررت به.. لله ما أعظم ذلك الشعور الذي كنت تعاني منه.. شعور مواجهة التيار بالضد.. شعور أن تقف وحيداً أمام الكل.. شعور أن تواجه العُتاة.. لا مال ولا أهل ولا نصير .. كلهم ضدك كانوا يا نبي الله.. كلهم كانوا يرقبون زلتك.. كانوا يتصيدون لك الخطأ.. كانوا يُريدون الإطاحة بك بعد أن كنت عزيزا عندهم.

بدأت في دعوتك من تلك العزلة التي كنت تزاولها.. من تلك التأملات التي كنت تسبح في ملكوتها.. من ذلك الغار الذي أشرقت منه الأنوار.. تجلس فيه وحيدا.. تتأمل ماذا يا ترى؟ هل كنت تسبح الله وتشكو له فساد مُعتقد أهل مكة؟ هل كنت تشكو إليه فساد فطرتهم... أم ماذا؟

ينزل عليك جبريل في ثوب الوحي.. ترتاع لأنها لم تكن سابقة بإنذار.. لم يخبرك أحد ما الذي نزل عليك؟ ترى ما هذه القوة التي صبرت بها على نزول جبريل وهو يكلمك.. أعرف يا رسول الله بأنك لم تعتد على مثل هذا النزول.. كيف ملكت زمام نفسك لتجيبه: ما أنا بقارئ؟ هل نحن مثلك اليوم نملك هذه القوة للتعرض لمثل هذا والوقوف بقوة أمام أي مفزع؟

تمشي متأملا يا رسول االله .. لم يُعجبك ما يفعله أهل مكة.. لم تعجبك أفعالهم الصبيانية في عبادة الصنم.. تمشي متأملا بين جنبات وأزقة مكة..ترى حالهم التي وصلوا لها.. تيقن بأن هناك أمرا أعظم من هذا بكثير .. تيقن بأن هناك من هو مستحق للعبادة والذل أكثر من هذه الأصنام .. أكثر من هذه التي لا تضر.. فطرتك لم تسمح لك أن تلقي بصفحة جبينك متذللاً لصنم خلقته أنت.. كنت تحس بوجود الله .. كنت دائماً تسعى لأن تبحث عن الله.. اخترت الغار .. اخترت هذا المكان.. تلك البقعة البعيدة عن مكة .. ذلك الغار الذي لا يتسع لأكثر من شخص.. لا يتسع إلا لك ولحضور روحانية في روحك الطاهرة.. مكان بعيد عن ديارك.. اعتزلت قومك.. ترى كم هو صعب ذلك الاعتزال .. كم هي المشقة التي عانيتها من ترك أصحابك.. من ترك ملذات الشباب.. من ترك هذه الفتوة.. كنت في العشرينات من عمرك.. نحن اليوم عاجزون عن تصديق هذه القوة بعقولنا.. ولكن إيماننا يسبق هذه العقول القاصرة.. في عشرينات عمرك تتخلى عن كل شيء.. تتخلى عن حب الظهور.. تتخلى عن مسامرة الأقران.. ترى كيف كان إحساسك يا رسول.. كيف هي المُعاناة التي كنت تحس بها.. هل كان الأمر شاقا!

لا أقدر أنا كشاب في عشرينيات عمري أن أستوعب هذا الأمر.. ولا أظن المُجتمع الذي نعيش فيه قادر على تعقّل هذه القوة.. هل كنت فعلاً بعمر الأربعين وأنت لا زلت في العشرين.. خطواتك.. تأملك.. تصرفاتك يا رسول الله لم تكن لشاب عمره في العشرين.. كنت كبيرًا قبل مبعثك.. وعاقلًا من شبابك.. لم تأت إليك الرسالة على طبق من ذهب.. لم تأتِ لك البعثة وأنت في راحة ودعة.. من المؤكد أنها معاناة كانت تختبرك.. وكنت صابرًا محتسبًا.. مؤمنًا أن الله معك مهما اشتد البلاء.

تعليق عبر الفيس بوك