الإبل.. منظور اقتصادي استراتيجي

 

 

◄ انتقلت الإبل من اعتبارها موروثًا؛ لتكون الآن مصدرَ دخلٍ تَعتمدُ عليه شريحةٌ واسعةٌ من المواطنين

 

 

د. يوسف بن حمد البلوشي

yousufh@omaninvestgateway.com

 

تحتلُ الإبلُ مكانةً خاصةً لدى العرب عامة والعُمانيين خاصة، وتعد الإبل أنفَس الأموال، وقد قيل في الإبل "ما خلق الله شيئًا من الدواب خيرًا من الإبل، إن حملت أثقلت، وإن سارت أبعدت، وإن حلبت أروت، وإن نُحرت أشبعت".

وألبان الإبل دواءٌ نافعٌ لأمراض الجهاز الهضمي، وتميزت عُمان منذ القدم بالعديد من العادات والتقاليد العريقة، ويزخر تراثها بالكثير من الظواهر، وفي مُقدمتها تربية الإبل (سفينة الصحراء)، والتي لها دور فعّال في حياة الإنسان العُماني في المناسبات الوطنية والاجتماعية في مختلف محافظات السلطنة. وتعد علاقة الإنسان العُماني بالإبل علاقة قديمة تضرب بجذورها في أعماق التاريخ، فقبل 1970 كانت الإبل والسفن الشراعية تمثلان جزءًا مهمًا من النسيج الاقتصادي والاجتماعي؛ حيث كانت وسيلة رئيسية لنقل البضائع في الداخل وإلى الدول المجاوره من خلال قوافل الإبل. إلّا أن اكتشاف النفط والغاز أحدث تحولًا كبيرًا في أنماط الحياة والسلوك في السلطنة، وتكرر في تحول مماثل بمختلف المجالات، ومن بينها تربية واستخدام الإبل، فتحولت من مصدر للتنقل والجاه والغذاء إلى مصدر للجاهِ والمال والزينة. واستمر الاهتمام بالإبل إلى يومنا هذا، وقد ترجمت الحكومة هذا الاهتمام من خلال تنظيم السباقات السنوية والاهتمام بالسلالات الأصيلة والعناية الصحية بالإبل؛ حيث تنتشر العيادات البيطرية في مختلف محافظات السلطنة.

وفي السياق المؤسسي، أنشئت الهجانة السلطانية والاتحاد العُماني للهجن، وهاتان المؤسستان تهتمان بالإبل في السلطنة كموروث حضاري ورياضة شعبية. وهناك اهتمام من قبل شركات القطاع الخاص وخاصة الشركات النفطية التي أولت موضوع الهجن أهمية كبيرة؛ حيث تشارك في المساهمة المجتمعية في إنشاء مضامير الهجن وتنظيم السباقات وتوفير العيادات والمختبرات الخاصة بالاهتمام بالهجن.

وفي السياق الإحصائي، تشير التقديرات لوجود ما يربو عن 300 ألف رأس من الإبل يتركز 60% منها في محافظة ظفار، وهي إبل تتسم بغزارة الإنتاج وجودة الحليب واللحم، تليها محافظة شمال الباطنة؛ حيث يتركز فيها 15% من الإبل في السلطنة، وتشتهر بإبل المزاينة والعرضة، ثم محافظة شمال الشرقية بنسبة 10% وتمتاز بتوافر إبل السباق، في حين تنتشر الـ15% المتبقية في باقي محافظات السلطنة.

وفي السياق الاقتصادي، فإن للإبل حراكًا اقتصاديًا داخليًا مهمًا، من خلال الأنشطة المرتبطة بالبيع والشراء والأعلاف، والحراك في السباقات المحلية، والنقل والشاحنات والسائقين والعاملين في القطاع، والعيادات البيطرية والأدوية والمزارع، وخلق فرص عمل بشكل مباشر وغير مباشر. كما إن للإبل مساهمة مهمة من خلال الحراك الاقتصادي مع دول الخليج وتعزيز ميزان المدفوعات ودورة الأنشطة الاقتصادية المحلية وجلب العملة الأجنبية، من خلال المشاركات الخارجية وما ينجم عنها من جوائز مالية مرتفعة القيمة وصفقات مليونية تُحوَّل إلى داخل الاقتصاد العُماني؛ سواءً من بيع الإبل أو مكافآت المُضمِّرين.

وترجمةً للاهتمام الرسمي ولتعظيم الاستفادة من الأعداد الكبيرة من الإبل، تم إنشاء شركة مساهِمة مغلقة باسم "المروج للألبان"، لإضفاء الصبغة الاقتصادية والتعامل مع بعض التحديات التي تواجه مُربي الإبل، وتوفير منافذ تسويقية لمنتجاتهم، وفقًا للمعاييرِ الاقتصادية، وتبنّي الوسائل الحديثة لتربية الإبل، وإحلال التكنولوجيا الحديثة لتربية الإبل، بدلًا عن الممارسات التقليدية، وزيادة الإنتاجية من خلال التركيز على النوع عوضًا عن الكم.

ونحن في عام 2023، يُمكننا القول- نسبيًا- إن الإبل انتقلت من اعتبارها موروثًا، لتكون الآن مصدرَ دخلٍ تَعتمدُ عليه شريحةٌ واسعةٌ من المواطنين، ونأمل أن نراها صناعة يشار لها بالبنان بتكاتف وتعاون الجميع. وتجدر الإشارة إلى أن هناك العديد من التأثيرات الاجتماعية والاقتصادية لتربية الإبل، خاصة وأن الإبل العُمانية تعد من أفضل السلالات على مستوى العالم، وليس الخليج فقط.

وقبل أن نختم، وجب التنويه إلى أن هناك تحديات كبيرة تواجه مُربي الإبل، يستوجب على الحكومة التعامل معها، وإيجاد الحلول المناسبة لها، ولضيق مساحة المقال نذكر منها على سبيل المثال وليس الحصر: أن أسلوب الخطاب بين أصحاب الإبل ومتخذي القرار مفقود أو محدود ويجب إيجاد مساحة كافية للحوار؛ لضمان حوكمة قطاع الإبل، بشكل يتواكب مع المرحلة، وإيجاد تنظيم أفضل للعلاقة بين المُلاك ومتخذي القرار. كما إن هناك حاجة إلى خطاب إعلامي جديد لنشر الوعي بأهمية الإبل، وارتباطها بالثقافة والهوية والموروث، ورفع مكانة أصحاب الإبل وتوفير دورات تدريبية لهم، وتبنّي أفضل الممارسات العالمية في تربية الإبل؛ بما ينعكس على زيادة أعدادها ومرودها الاقتصادي.

وكذلك ضرورة الاهتمام بتنظيم السباقات والمهرجانات بأنواعها، وتخصيص جوائز مجدية لها؛ لايجاد أسباب التنافس وحشد هِمَم مُربي الإبل؛ لزيادة الاهتمام بها وتحقيق ما يعرف بتأثير "المُضاعِف الاقتصادي" لهذا القطاع المُهم. إلى جانب تحدٍ آخر يرتبط بالإبل السائبة التي تتسبب في حوادث مُمِيتة، وفي كثير من الأحيان نجدُ أن هذا التحدي مرتبطٌ بضعف الإمكانيات المالية لأصحاب الإبل، الذين يتركونها لترعى في الكلأ والصحراء، ولذا على الحكومة مساعدة المُربين ودعم الأعلاف، للنهوض بهذا القطاع وحماية الأروح وتقليل الحوادث.

ولا يفوتنا أن نُذكِّر بضرورة تنظيم هذا القطاع بشكل أفضل وإيجاد تشريعات ولوائح لتحقيق أهداف واضحة المعالم لجميع الأطراف، ولتحقيق ذلك يستوجب الأمر إيلاء توفير قاعدة إحصاءات رصينة لرصد المؤشرات الكمية لهذا القطاع، وحجم ونوعية فرص الأعمال المباشرة وغير المباشرة والأنشطة المرتبطة بتربية الإبل؛ لنستطيع تقييم الأهمية أو الجدوى بمعناها الواسع. ففي كثير من الأحيان يكون الاعتماد على اعتبارات مالية بحتة، أمرا غير منصف ويغفل عوائد اجتماعية واقتصادية متعددة لهذا القطاع. وكذلك ثمّة حاجة إلى فكرٍ جديدٍ ابتكاري لتعظيم الاستفادة من الإبل في السلطنة وجعلها جزءًا من المنظومة الاقتصادية، وخاصة السياحية، من خلال إنشاء قرية الإبل السياحية، لتزهو بمنتجات وصناعات وتاريخ ومظاهر حياة أهل البادية، وتكون مقصدًا للسائح ومتنفسًا للمُقيم، ومعززةً لثقافة وهوية المواطن. ومن التوصيات المهمة التي يُطالب بها أصحاب الإبل، التمكين، وذلك من خلال الدعم المباشر لأصحاب الإبل على غرار الأندية الرياضية، وتبني فكرة إنشاء صندوق استثماري يتم توظيفه للنهوض بتربية وتنمية الإبل في عُمان.

وبقي القول إنه قد آن الأوان لنرى جمعية لأصحاب الإبل، كإحدى مؤسسات المجتمع المدني، تُعنى بهموم وهواجس أصحاب الإبل وتتواصل معهم ومع الأطراف المعنية، وتتولى التنسيق معهم لما فيه المصلحة العامة، وتستطيع أن تقرأ المشهد بشكل حيادي ومن منظور وطني استراتيجي.