قيمنا العُمانية الأصيلة.. وضماناتها السياسية

 

 

التوجيه السامي يشكِّل ضمانة سياسية لحماية منظومة القيم والأخلاق العُمانية، وينبغي أن يكون مرجعية المؤسسات المختلفة في البلاد

 

د. عبدالله باحجاج

كان موضوع عنوان المقال أعلاه يشغلني كثيرًا منذ تبني نظام الضرائب وفرض رسوم على الخدمات وتخفيف الدور الاجتماعي للدولة، وكذلك تقاطعه مع أجندات أجنبية تُفتح لها أبواب بعض العواصم الإقليمية لنشر أفكارها المُتعارضة مع قيم وأخلاق مجتمعاتنا، وفي حينها كنت أتساءل عن مستقبل الدور الاجتماعي للحكومات في ظل مثل تلكم التحولات الاستراتيجية؟ وما هي بدائل هذا الدور؟ وما تأثيرها على القيم والأخلاق في المنطقة؟

وزاد شغفي في البحث عندما برزت فوق سطحنا الاجتماعي جرائم اجتماعية مُقلقة مثَّلت "حالات" غير مسبوقة، لكنني ورغم ذلك، اكتفيت بالمتابعة والرصد والتوثيق، حتى تصدرت قضية القيم والأخلاق اهتمامات عاهل البلاد- حفظه الله ورعاه- في اجتماع مجلس الوزراء الأخير، وإصدار توجيهات مباشرة وصريحة وذات دلالات واضحة، عندها يستوجب أن نساهم في إثراء النقاشات العمومية فيها.

فخلال ترؤس جلالته اجتماع مجلس الوزراء الأخير، وجّه بضرورة ترسيخ المبادئ والقيم العُمانية الأصيلة المستمدة من تعاليم الدين الإسلامي الحنيف. وبقليل من التفكير في المستهدفين بهذا التوجيه بظاهرِهِ المباشر وغير المباشر، نجد أن كل مؤسسات الدولة من حكومية وخاصة وأهلية/ أسرية معنية به دون استثناء، مع الفارق في المسؤولية، وكل من يعتقد أن التوجيه ينحصر في استهدافه المباشر للأسر فحسب، فهو بعيد كل البعد عن الفهم الصحيح لقضية تراجع القيم والأخلاق، وما تنتجه من حالات عدم استقرار اجتماعي محدود حتى الآن.

صحيحٌ أن الدور الأسري جزءٌ من المشكلة، وربما يكون جزءًا أصلًا فيها، لكن، علينا هنا أن نبحث أيضًا في الأسباب التي تدفع بالأسر الى أن يكون لها هذه المسؤولية العظمى، وهنا لا يمكن إقصاء قضايا قديمة وأخرى مستجدة مثل الضرائب والرسوم والتسريح والباحثين عن عمل والدخول الضعيفة والغلاء، ودور القطاع التعليمي العام، وضعف الوازع الديني والتطور التكنولوجي، وغير ذلك، في التأثير على التنشئة الأسرية، فهناك مجموعة عوامل مؤثرة، بمعنى إذا ما أردنا أن نحمِّل الأسر المسؤولية، فعلينا أن نبحث عن الأسباب، فكل عملية بحث موضوعية فيها، سنجد حجم تأثيرها على تراجع القيم والأخلاق.

والقيم والأخلاق معايير عامة، وضابطة للسلوك البشري السليم، وسنجدها في منظومة متكاملة ومتضامنة، كالصدق والإيثار والكرم والحياء والتضحية والتعاون والتعاضد والتسامح والاعتدال والتكافل الاجتماعي، الذي فيه يكمل أبناء المجتمع بعضهم البعض، في شتى جوانب الحياة؛ مما يقلص مصانع الفقر والعوز في المجتمع، ولنا تصور تأثير طبيعة القضايا سالفة الذكر على منظومة القيم والأخلاق التي هي الضمانة لاستقرار المجتمعات، وهي التي توفر أرضية نجاح التنمية والاقتصاد أو العكس.

وفي ضوء استشراف التحديات الوجودية التي تواجه منظومة القيم والأخلاق، فإننا ينبغي أن ندق ناقوس الخطر على قيم ذات طابع سياسي كالتسامح والاعتدال التي بُنيت عليها الشخصية الوطنية العُمانية، فتلكم القضايا التي أشرنا إليها، وهي مجرد نماذج فحسب، تصنع سيكولوجيات معينة في جيل الشباب بسبب ما تنتجه من حالات قلق مستدام في ظل خطابات يغلب عليها التشاؤم من المستقبل، رغم أنَّ بلادنا قد انتقلت من الأسباب المولِّدة للتشاؤم، وتقف الآن على أرضية التفاؤل المستدام، ومستقبلها الاقتصادي المعاصر يُصاغ بموارد متجددة وبطموحات كبيرة. ورغم ذلك، فالتشاؤم لا يزال يتمثل في صناعة اللاوعي بالمآلات سالفة الذكر، والخطورة هنا، أن صناعة التشاؤم أصبحت تترسخ في سيكولوجية الجيل الجديد، فلم يكتف بالجيل المخضرم، وهذا مبرر إضافي أُقدِّمه على المبررات السابقة التي طالبتُ من خلالها بتجريم التشاؤم أيًا كان مصدره.

ويتزامن مع هذه المرحلة أفكار وآيديولوجيات أجنبية تستهدف دول المنطقة مثل النسوية والإلحاد والمثلية.. إلخ، رُصدت لها المليارات الأمريكية والأوروبية، وقد أوضحناها في مقالات سابقة.

ومن هنا نرى أن التوجيه السامي يُشكِّل ضمانة سياسية لحماية منظومة القيم والأخلاق العُمانية، وينبغي أن تكون مرجعية المؤسسات المختلفة في البلاد، وخاصة اللجان الاجتماعية الرسمية التي تم تشكليها مؤخرًا من نخب مختلفة، وأُنيط بها حماية المنظومة القيمية والأخلاقية والهُوية العُمانية بالتعاون مع المجالس البلدية، وينبغي أن يقود كل والٍ ملفَ القيم والأخلاق في كل ولاية، ويكون المحافظ في كل محافظة مرجعية لهذا العمل الوطني؛ إذ إن المحافظ يمثل السلطة اللامركزية الجامعة للتعدد المؤسساتي الحكومي والخاص والأهلي والاجتماعي داخل المحافظة، ولديه الصلاحية اللامركزية على جمع هذا التعدد وصهره في منهجية عمل بخطة ذكية تجمع شركاء المنظومة القيمية والأخلاقية؛ كالأسر والمؤسسات التربوية والتعليمية والتوجيهية والاجتماعية، والخروج بمرئيات لحل الظواهر وتعزيز القيم والأخلاق.

على أن تقوم المركزية بدراسة تأثير سياساتها المالية على المجتمع، وإعادة تصحيح ما يمكن تصحيحه عاجلًا، فبعض السياسات والقوانين لم يعد لها شرعية الاستمرارية بعد عودة أسعار النفط إلى الارتفاع، وبعد أن أصبحت مصادر دخل بديلة متعددة تساهم في رفد خزينة الدولة، وبعد أن أصبح مستقبل البلاد الاقتصادي واضحَ المعالم بخطط مدروسة، وأدعو إلى تشكيل لجنة من أصحاب الخبرات الوطنية في المجالات المالية والاقتصادية والاجتماعية، تقدم حلولًا جامعة للمصالح السياسية والاجتماعية والمالية والاقتصادية، ومن منظور الحفاظ على الركائز القيمية والأخلاقية والوطنية، التي هى ركائز بنائية للمجتمع العُماني الانتمائي والولائي، ولا نتصور أن أية دولة خليجية يمكن أن تواجه التحديات المقبلة التي تستهدف اختراقها من العمق، دون مجتمع ولائي وانتمائي؛ فهي القوة الناعمة التي يمكن أن تستخدمها في كل الظروف بعكس القوة الخشنة.