الدبلوماسية العُمانية والواقعية السياسية (4)

 

د. إسماعيل بن صالح الأغبري

في إطار سلسلة حديثنا عن الدبلوماسية العُمانية والواقعية السياسية، نتناول اليوم في الجزء الرابع من هذه الدبلوماسية، موضوع: إقامة العلاقات مع الدول دون النظر إلى نوعية النظام الحاكم.

من مُنطلق مبدأ عدم التدخل في شؤون الدول، فإنَّ الدبلوماسية العُمانية تُقِيم العلاقات الطبيعية مع الدول بغض النظر عن نوع النظام الحاكم، أكان علمانيًا أو ليبراليًا أو إسلاميًا أو شيوعيًا، فسلطنة عُمان ليست مُحددًا لأنواع أنظمة الحكم في العالم، وليست الموجِه لغيرها في نوع النظام الذي ستختاره تلك الدول.

وقد أورث ذلك علاقات مستقرة مع تلك الدول، وإنْ تقلبت أنظمة الحكم فيها، ومن الأمثلة على ذلك العلاقات الطبيعية مع إيران، فقد كانت علاقات طبيعية معها أيام حكم الشاه وهو المحسوب على النظام الرأسمالي الغربي، وبلغ التعاون أشده خلال دعم إيران للموقف العُماني من المتمردين الماركسيين المدعومين- آنذاك- من الاتحاد السوفيتي والصين وكوبا وما يُسمى سابقًا باليمن الجنوبي وعدد من دول شمال أفريقيا وبلاد الشام والخليج، وصحيحٌ أن الدعم الإيراني لعُمان يُلبي مصالح إيران أيضًا من حيث وقف خطر التيار الماركسي المناوئ للرأسمالية الغربية، إلّا أنَّ ذلك الدعم كان له أثره الإيجابي على عُمان فقد جاء في وقت عزَّ فيه النصير، وقلَّ المُعين، علاوة على أنَّ نظام حكم السلطان قابوس بن سعيد في عُمان، كان حديث النشأة.

وفي عام 1979، تغيّر نظام الحكم في إيران، وحلَّ محل نظام الشاه الرأسمالي نظام آخر أسسه الإمام آية الله الخميني، وهو نظام إسلامي على النقيض من النظام الرأسمالي الغربي، فاضطربت علاقات كثير من الدول العربية، ومالت إلى محاولة إسقاط النظام الحاكم، ودعم القوى الساعية إلى إسقاطه، الداخلية منها والخارجية، كما انحازت علانية مع صدام حسين في الحرب العراقية الإيرانية، وأمدته بمئات المليارات من الدولارات مع ترسانة مختلفة من الأسلحة، إضافة إلى انحياز إعلامي علني ضد الجمهورية الإيرانية الإسلامية.

أمَّا علاقات سلطنة عُمان مع إيران، فإنِّها لم تشهد اضطرابًا ملحوظًا أيام آية الله الخميني؛ باعتبار أن نوع النظام الحاكم في كل دوله تُقرره تلك الدولة، وهو شأن داخلي بحت، وتُرجِمَ ذلك عمليًا بامتناع وسائل الإعلام العُمانية عن مُهاجمة النظام الجديد أو الحشد ضده أو تهييج الجماهير عليه، كما إن سلطنة عُمان لم تندفع تأييدًا وبشكل سافر لصدام حسين في اعتدائه على إيران، وهذا الموقف- في حد ذاته- يعكس ثبات السياسة العُمانية وعدم تقلبها، ومن جهة أخرى يمثل وفاء السلطان قابوس لإيران الدولة، فإنها وقفت معه في تخليص عُمان من التمرد الماركسي الذي انطفأ في منتصف السبعينيات من القرن الميلادي المنصرم.

انقسم الإسلاميون في إيران إلى جناحين؛ أحدهما يوصف بـ"المُعتدلين" وعلى رأسهم الرؤساء السابقون هاشمي رافسنجاني ومحمد خاتمي وحسن روحاني، فكانت العلاقات العُمانية الإيرانية علاقات مستقرة طبيعية، بينما ظلت علاقات الدول الخليجية والعربية في أحسن حالاتها بين مد وجزر سياسيًا، أما اقتصاديًا وتجاريًا فإن عددًا من دول الخليج أقام علاقات اقتصادية مع إيران على أحسن وجه، وتفوق سلطنة عُمان من حيث التبادل التجاري والمصالح الاقتصادية المشتركة.

وفي مُقابل جناح المعتدلين، برزَ جناحٌ آخر يوصف بـ"المحافظين"، وكان على رأسهم أحمدي نجاد ثم حاليًا الرئيس إبراهيم رئيسي، ومع ذلك لم تتغير العلاقات بين البلدين أو تشهد تذبذبًا، وهذا منطقيٌ لمن فَهِمَ السياسة بالمعنى اللغوي والاصطلاحي؛ فهي من ساس الأمر إذا أحكمه وأحسن تدبيره، فمن تقلبت سياسته كل حين، وانفعل عند كل حدث لا يُصدّق عليه أنه سياسي، وليس له منه إلّا الاسم فقط، أما سلطنة عُمان فإنها تنسج سياستها بعيدًا عن التقلبات أو الانفعالات.

حاولَ عددٌ من الدول حَملَ عُمان على تغيير منهجها السياسي، إلّا أن عُمان أبت ذلك، ومع مرور السنين، تبيّن للمنصف صواب الدبلوماسية العُمانية؛ فالدول ليست وكيلة ولا وصية على غيرها لتتحكم في نوع الأيديولوجية التي ينبغي أن تحكم، وإلّا فإنَّ دولًا غربية تحمل أعلامها الصليب، فهل علينا الإملاء عليها لتغيير ومحو الصليب من أعلامها لنقيم معها أحسن العلاقات؟! ومن هذه الدول أو المقاطعات الأوروبية التي تحمل الصليب في أعلامها مولدوفا والجبل الأسود والبرتغال وأستراليا وفيجي ونيوزيلاندا واليونان والفاتيكان وإسبانيا ودومنيكا وسلوفاكيا وصربيا وجامايكا ومقدونيا الشمالية وجمهورية الدومينيكان وأيسلندا وأسكتلندا وإنجلترا وفنلندا والسويد وسويسرا والدنمارك والمملكة المتحدة، فهل الدول العربية أحجمت عن إقامة علاقات دبلوماسية معها؟! فلماذا علينا مقاطعة إيران؟! وهي دولة جارة مُسلمة، بيننا وبينها حدود مشتركة، ونشترك معها في مضيق هرمز، ولم يصدر منها شيء يعكر صفو علاقاتنا معها؟ إنَّ المنطق الصحيح يأبى أن نغضب لغضب دول لا ندري لم غضبت، ونرضى لرضا دول لا ندري لم رضيت؟ لو اتبعنا هذا المنهج لم نكن لنقيم علاقة مع دولة من الدول.

إسرائيل التي تقيم معها دول عربية علاقات دبلوماسية نشأت نشأة دينية، فاسم إسرائيل اسم ديني يُطلق على النبي يعقوب عليه السلام، واليهود يعتبرونه منهم، ووصفهم فلسطين بأنها "أرض الميعاد"، واجتماعهم من شتات الأرض فيها يأتي في إطار تحاكمهم إلى نصوصهم الدينية، وعلم إسرائيل يحمل نجمة نبي الله داود عليه السلام، واليهود يعتبرون أنفسهم أنهم امتدادًا له، وتسميتهم الضفة الغربية وغزة "يهوذا" و"السامراء"، مأخوذ مما ورد في نصوصهم الدينية، وتسميتهم حائط البراق بـ"حائط المبكى" اعتمادًا منهم على ما يزعمون أنها آثار دينية يهودية، وتنقيبهم عن هيكل النبي سليمان عليه السلام ينطلق من دوافع دينية يهودية، ثم تم تتويج هذه الصبغة الدينية أن نصَّ نظامهم الأساسي (الدستور) على أن إسرائيل دولة يهودية؛ بل ممارسة إسرائيل التمييز العنصري لا تخلو من صِبغة دينية موروثة عندهم؛ باعتبار أن اليهود كما زعموا "شعب الله المختار"؟! فهل يمكن إملاء شيء عليها؟ وهل الدول العربية التي أقامت علاقات دبلوماسية معها كانت تجهل شيئًا من تلك التوجهات الإسرائيلية؟

لو اتخذت الدبلوماسية العربية ذات منهج الدبلوماسية العُمانية في التعامل مع إيران، لما رأينا هذا التراشق الإعلامي واضطراب حبل العلاقات بين عدد من الدول العربية وإيران، علمًا بأن إيران ليست واردة على المنطقة، وليست جسمًا غريبًا عليها؛ بل هي أصل أصيل باقية جارة ولو جفَّ النفط أو جاء القحط، أما غيرها من القوى الغربية فهي آتية إلى المنطقة لسيلان لعابها على نفطها وغازها وموقعها المتميز، فإذا ما آذنت نعمتا النفط والغاز بالزوال فإن الغرب راحلٌ عنها.

ومن الشواهد الأخرى على أن السياسة العُمانية لا يعنيها نوع النظام الحاكم في دولة من الدول ولا الأيديولوجية الغالبة عليه، العلاقات مع لُبنان، فلُبنان كان منقسمًا إلى تيارين سياسيين كبيرين تيار "14 آذار" ويتزعمه سعد الحريري زعيم تيار المستقبل، ومعه أمين الجميل زعيم حزب الكتائب، وسمير جعجع زعيم حزب القوات اللبنانية، والحزب التقدمي الاشتراكي وزعيمه وليد جنبلاط، وتيار "8 آذار" ويتشكل من حزب الله وزعيمه حسن نصر الله، والتيار الوطني الحر وكان يتزعمه ميشال عون والآن صهره جبران باسيل، وحركة أمل ويتزعمها نبيه بري، وتيار المردة ويتزعمه سليمان فرنجيه.

عددٌ من الدول العربية تتبدل مواقفها مع لبنان بناء على قرب رئيس الوزراء أو رئيس الدولة من هذا التيار أو بُعده عنه، أما سلطنة عُمان فإنَّ علاقاتها مع رئيس الوزراء أو رئيس الدولة أو مع لبنان بصفة عامة لا تتغير، وصفوها لا يتكدر، ذلك أنها تقيم العلاقات مع الدولة بغض النظر عن نوع النظام الحاكم أو (الأيديولوجية) التي يتم بها تسيير الدولة.

لا زلت أذكر كيف أن الدول العربية انقسمت على نفسها خلال أحداث ما يسمى بـ"الربيع العربي"، فبعضها ضخ عشرات المليارات من أجل إعادة ما يسمى برموز النظام السابق، وهو المحسوب على الرأسمالية الغربية، وبعضها ضخ عشرات المليارات لتثبيت النظام الجديد ذي النزعة الإسلامية الحزبية، أما سلطنة عُمان فنأت عن جميع ذلك، واعترفت بما يعترف به أهل البلاد، لأنها لم تنصب نفسها وكيلة أو وصية أو مُشْرِفَة على شؤون الدول.

ولذا احتفظت بعلاقات حسنة مع مصر أيام الرئيسين السابقين أنور السادات وحسني مبارك المقربين من الغرب، والمحسوبين على الرأسمالية، ولما تولى الحكم الرئيس السابق محمد مرسي وهو المحسوب على التيار الإسلامي لم تتزلزل علاقات سلطنة عُمان بمصر، وكذلك خلال فترة حكم الرئيس الانتقالي عدلي منصور، ثم جاء الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي وظلت العلاقات طبيعية وحسنة مع مصر.

ولم تقطع سلطنة عُمان علاقاتها مع سوريا، أو تتهم أو تصف نظام الحكم بأي وصف، لأن هذه التصرفات لا علاقة لها بإدارة الدول، كما إن إقحام النعرات الطائفية في الدبلوماسية يدل على عدم سياسة الدول، والذين يصفون نظام الحكم في سوريا أو نظام الحكم في إيران بأوصاف طائفية أو مذهبية، هم ذاتهم طائفيون حتى النخاع بدليل إحيائهم الطائفية ودعمهم الجماعات الدينية المتشددة والتي دخلت سوريا بطريق غير شرعي؟!

إن إقامة العلاقات أو قطعها على أسس طائفية يُنذر بقطع العلاقات مع العالم، لأننا بهذا المنطق سوف نضطر إلى قطع العلاقات مع أمريكا باعتبار أن الأحزاب اليمينية المسيحية تتصاعد، وكذلك الحال مع دول الاتحاد الأوروبي المصنف بأنه أكبر نادٍ مسيحي، وهل علينا قطع العلاقات مع الفاتيكان وهو حامي حمى المسيحية الكاثوليكية؟ وقطع العلاقات مع روسيا ومن كان على شاكلتها باعتبار أنها قلعة الكنيسة الأرثوذكسية؟!

إنَّ المنهج السياسي العُماني جنَّبَ الدبلوماسية العُمانية اضطراب حبل سياستها أو الدخول في مهاترات جانبية أو خوض منافسات مع دول عربية لتثبيت نظام أو اقتلاع جذور نظام، بناءً على نوع الأيديولوجية الحاكمة أو التي من المتوقع أن تحكم.

ومن الشواهد الأخرى على عدم تدخل السياسة العُمانية في نوع اختيار الشعب للسياسيين منه هو العلاقات مع الفلسطينيين، فعندما قررت جامعة الدول العربية اعتبار منظمة التحرير الفلسطينية المُمثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني وكان على رأسها الرئيس الفلسطيني السابق ياسر عرفات اعترفت سلطنة عُمان بذلك وتعاملت على أساسه، واستقبلت عرفات في مسقط، وعندما جرت انتخابات في فلسطين في حدود عام 1967م وفازت حركة حماس المحسوبة على (الإسلاميين) فإنَّ سلطنة عُمان لم تضطرب علاقاتها مع الفلسطينيين؛ سواءً أكانوا في الضفة الغربية- معقل السلطة الفلسطينية- أو قطاع غزة، واستقبلت سلطنة عُمان خالد مشعل باعتباره من السلطة المنتخبة، وليس باعتباره منتسبًا لحركة الإخوان المسلمين، وتقدم سلطنة عُمان مساعدات عينية ومادية كبناء المدارس والمساجد في الضفة الغربية وقطاع غزة وداخل الخط الأخضر دون تمييز، ذلك لأنها تتعامل مع الفلسطينيين والسلطة القائمة بغض النظر عن نوع الأيدلوجية التي تدير الأمر.

دول عربية قدمت مساعدات للضفة الغربية فقط دون غزة نكاية بمن يلي أمر غزة، وأخرى قدمت مساعدات لقطاع غزة دون الضفة نكاية بمن يلي أمر الضفة.

من وجهة نظري، فإن الذين يعيبون على عُمان دبلوماسيتها وسياستها ثم يأخذون بها في لاحق الشهور والسنوات دون الاعتراف بأن منهج سلطنة عُمان هو الدبلوماسية بعينها، هؤلاء لا يرغبون أن يُسجل لعُمان السبق؛ لأسباب تاريخية أو جغرافية أو هو من باب التعالي وعدم الاعتراف بالخطأ.