الوالي و"شايلوك" وعام الرمادة

 

 

د. سعيد بن سليمان العيسائي **

 

هذه المقالة تناقش مجموعة من القضايا والأمور والهموم التي كثر الحديث عنها فى وسائل التواصل الاجتماعي، وشغلت الكثير من الدارسين والمسؤولين والناس على مدى سنوات عديدة.

وقد يتساءل بعض الناس عن الرابط بين هذه القضايا والأمور التي شملها عنوان هذا المقال، ولكننا أوردناها لقناعتنا بوجود رابط أو روابط، أوخيط رفيع يربط بين بعضها أو بينها جمعيًا، وسوف يتضح ذلك من خلال هذا المقال بإذن الله.

ونبتدئ مقالنا بقصة وقعت في صحار حسب ما ذكر لي أحد العارفين بتاريخ هذه الولاية، لكنه قال: إنها حدثت في زمن الوالي مظفر بن سليمان، وأنا أستبعدُ أن تكون وقعت في زمن هذا الوالي، لأنَّ بطلها عبد الله الدوسري التاجر السعودي الأصل، الذي رأيته فى طفولتي بلحيته السعودية، وشماغه الأحمر الذي يخلو من العقال، لم يعاصر هذا الوالي؛ بل جاء إلى صحار بعد هذا الوالي بسنوات طويلة.

وملخّص القصة أنَّ اثنين من فقراء صحار اشتريا منه بضاعة لها صلة بالطعام والشراب، أو شيء من المؤونة، أو الزاد الذي يُعينهم على العيش. وعندما تأخرَا عن سداد المبالغ اشتكاهما إلى الوالي، فطلبهما الوالي بحضور عبد الله الدوسري، وعندما سألهما الوالي عن سبب تخلفهما عن السداد، قالَا: إنَّ الفقر وضيق ذات اليد هو الذي منعهما عن السداد.

وعندما نظر الوالي إلى مظهرهما وملابسهما وحالتهما المُزرية، قال للدوسري: سوف أسجنهما، ولكن بشرط أن تتكفل بإطعام نسائهما وأطفالهما، فردَّ الدوسري بعدم القدرة على ذلك.

فقال له الوالي: إذا كنت لا تقدر على الشرط، فلم لا تعتقهما لوجه الله، ففعل الدوسري ما اقترحه الوالي.

نشير هنا إلى أنَّ الحياة والأوضاع في صحار وعُمان كانت صعبة، وكان الفقر والفاقة والحاجة متفشية بين معظم الناس.

محطتنا الثانية، أو قصتنا الثانية هي قصة "شايلوك"، وهي شخصية يهودية صورها الأديب الإنجليزي وِليام شكسبير فى مسرحية "تاجر البندقية". وشايلوك هذا مُرابٍ يهودي، وإحدى الشخصيات المحورية فى هذه المسرحية، وتتلخص القصة فى أنَّ تاجر البندقية أو تاجر فينيسيا (أنطونيو) اقترض من شايلوك مبلغًا من المال، واشترط عليه إذا عجز عن السداد أن يقص رطلًا من لحمه قريبًا من القلب. وعندما رُفعت القضية إلى القاضي الذي كان حكيمًا وداهية، قال لشايلوك: نفذ شرطك يا شايلوك بشرط ألّا تريق قطرة دم واحدة. وهنا ذُهِلَ شايلوك، وأُسقط في يده- أي "تحير وعجز" ، ولم يستطع تنفيذ هذا الشرط الذي بتنفيذه سيفقد التاجر المسكين حياته.

وأذكر أننا درسنا هذه المسرحية ومثلناها على مسرح المدرسة الإعدادية في صحار.

محطتنا الثالثة هي عام الرمادة، الذي وقع فى عهد الخليفة عمر بن الخطاب فى أواخر سنة 17هـ واستمرت الأزمة إلى أول سنة 18هـ.  ورد عدد من المؤرخين تلك التسمية لأسباب إسوداد الأرض من قلة المطر حتى عاد أولها شبيهًا بالرماد؛ لأنَّ الريح كانت تسفي ترابًا كالرماد. وحدث هذا العام في المدينة المنورة وما حولها، وقد كانت هذه السنة سنة قحط وجدب وجوع استمر لتسعة أشهر.

ومن التدابير التي اتخذها الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أنفق على المحتاجين والفقراء والمعوزين من بيت مال المسلمين. وقيل: إنه لم يطبق حد السرقة على من سرق لسد جوعه ورمقه.

وإذا انتقلنا إلى "الغارمين" فإنَّ اللفظة تعني جمع غارم، ويُعرف فى اللغة بأنه جمع الشخص الذي يترتب عليه دَيْنٌ، وحان وقت سداده.

والغرماء: هم أصحاب الديون، وقد شملتهم الآية القرآنية فى قول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 60]، ويُقصد بالصدقات هنا: الزكوات.

وموضوع الغارمين قضية شائكة ومتشعبة ومتعددة الأوجه والجوانب؛ لأنَّ الكثير من الأفراد كالمسرحين والباحثين عن عمل وغيرهم، والمؤسسات والشركات يظنون، أو يعتقدون أنهم من الغارمين.

ويمكن تقسيم الغارمين إلى عدة فئات، منهم بعض الذين شملتهم الآية الكريمة التي أشرنا إليها سابقًا، ويدخل فيهم أصناف أخرى يجوز الصرف عليهم من الزكاة، حسب ما أفتى به بعض العلماء فى العصر الحديث.

وليست الزكاة ومصارفها هو  موضوع بحثنا فى هذا المقال؛ حيث إن هناك أصواتًا تنادي بإنشاء جمعية الغارمين، وأعتقدُ أن هذا الطرح بحاجة إلى مزيدٍ من التروي والتأني والدراسة؛ لأنَّ الآية الكريمة وغيرها من الآيات التي تتحدث عن الزكاة وفك الكربات وإطعام الجائع شملت هذه الفئة، إذا دفع المسلمون ما عليهم من زكوات بأنواعها، وإذا ما عززت أدوار الزكاة.

وموضوع الغارمين بحاجة إلى تشكيل لجنة تُحدِد من هي الفئات التي تدخل تحت هذا المُسمى، وما هي شروط صرف المساعدات والمعونات.

كما إنني أقترحُ إجراء دراسة موسعة شاملة تشارك فيها عدة جهات للإحاطة بموضوع الغارمين من كل جوانبه، والوقوف على كل ما يتصل بموضوعهم، وتقديم هذه الدراسة لأهل الخبرة والاختصاص للتوجيه بما هو مناسب.

وفى سياق الحديث عن الغارمين، فإننا سمعنا عن أناس دخلوا السجن فى مبالغ بسيطة، عجزوا عن تسديدها للبنوك، أو لبعض الأفراد، أو الشركات، وسمعنا عن أفراد من الغارمين عرضوا بيوتهم التى يسكنونها للبيع لتسديد ما عليهم من دِيون، خوفًا من دخول السجن.

ولا ندري مدى صحة ما يتداوله بعض المواطنين، أو الفاعلين فى وسائل التواصل الاجتماعي عن مثل هذه الحالات.

ومحطتنا التالية، هي محطة الباحثين عن عمل، وقد تطرقنا إلى هذا الموضوع فى مقالاتنا فى جريدة الرؤية بعنوان: "العُمانيون.. رحلة من أجل العطاء" قبل عِدة أشهر.

وعندما كنتُ فى ملبورن بأستراليا أدرسُ اللغة الإنجليزية، كنت أشاهد طوابير من الناس تقف أمام إحدى المؤسسات، أو البنوك، وبخاصة فى حي (سيدني رود) الذي كنت أسكنُ فيه، وعندما سألت عنهم، قيل لي: إنَّ هؤلاء هم العاطلون عن العمل كما يُسمون في بلدانهم، وأنهم هنا لاستلام الإعانة الشهرية أو النفقة التي تُسمى عندهم (Pension)، وحبذا لو تُطبق هذه المساعدة أو الإعانة الشهرية فى بلدنا على الباحثين عن عمل.

وإذا انتقلنا إلى المتسولين من مختلف الجنسيات، وفي مُعظم المحافظات، فإنَّ الأمر يحتاج إلى تضافر جميع الجهات ذات الاختصاص، لمحاربة هذه الظاهرة غير الحضارية، والقضاء عليها، فقلما تخلو محطة بنزين، أو مكينة صرف آلي، أو مطعم أو مسجد من هؤلاء المتسولين.

ولدينا قِصص ومشاهدات لا تُعدُّ ولا تُحصى عن هذه الفئة فى مسقط وصحار لا يتسع المجال لحصرها وذكرها  في هذا المقال.

ما نعتقده أن دخول هذه الفئة من المتسولين إلى السلطنة تمَّ بطريقة قانونية، وسمعنا أنَّ هناك عِصابات، أو أفرادًا يقومون بتوزيعهم فى محطات وأماكن مُحددة فى الصباح الباكر، ويقومون بجمعهم فى المساء، والغريب أنَّ عددًا منهم من الرجال والنساء والأطفال يرتدون الزي العُماني.

ونود أن نقول كلمة صريحة فى أسباب وجود الحالات التي أشرنا إليها فى مقالنا كالغارمين، والباحثين عن عمل، والفقراء والمتسولين وغيرهم من الحالات التي تعود إلى انخفاض أسعار النفط فى السنوات السابقة، وتذبذبها وجائحة كورونا والفساد المالي، وبعض الضرائب والإجراءات التقشفية التي فرضتها الحكومة.

نحن نعيش في مجتمع فيه من الأغنياء والأثرياء الكثير، وفيه من الفقراء والغارمين، والآية القرآنية فى قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ  لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ [المعارج: 24- 25]، والحديث النبوي الذي يقول: ﴿ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به﴾، والشاهد أن هناك غيرها كثير من الآيات والأحاديث حثت على البذل والإنفاق والتصدق، وفك كربة المكروب، وإطعام الجائع، والوقوف إلى جانب المحتاج.

وظهرت في هذا الخصوص مجموعة من الكتب التي تتحدث عن العدالة الاجتماعية والتكافل الاجتماعي فى الإسلام.

يُردد بعض الناس حديث الصدقة (ورَجُلٌ تَصَدَّقَ بصَدَقَةٍ فأخْفَاهَا حتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ ما تُنْفِقُ يَمِينُهُ)، للتدليل على ضرورة الإنفاق، أو التصدق فى السر.

وقد ردَّ عليهم بعض العلماء بضرورة الإنفاق والتصدق فى العلن، لتشجيع الآخرين على البذل، وليكونوا أسوة لغيرهم من المترددين.

وسنورد نماذجَ وقِصصًا من البذل فى العلن، التي كان لها أبلغ الأثر فى تشجيع الآخرين على هذا الأمر.

من أشهر نماذج الإنفاق فى العلن قصة السلطان الراحل قابوس بن سعيد- طيَّب الله ثراه- مع كلية عجمان؛ حيث قُدِّرَ لي أن أزور كلية عجمان عام 1995 ضمن وفد ثقافي من شعراء دول الخليج، والتقينا بمعالي الأستاذ سعيد سلمان رئيس الكلية، ووزير التربية والتعليم السابق بدولة الإمارات العربية المتحدة. ويقول معاليه: زارنا السلطان قابوس قبل عدة سنوات، وسأل عن وضع الكلية، فأجبته بكل صراحة: بأنَّ الكلية على وشك الإفلاس، فما كان من جلالته إلا أن تبرع بمليون دولار للكلية. ليس هذا المليون الذي هو أنقذ الكلية من شبح الإفلاس، ولكن ما إن سَمِعَ تجار وأثرياء الإمارات بالخبر حتى انهالت علينا الملايين من كل حدب وصوب فى الدولة.

وقد ساعدت هذه الأموال في أن تصبح كلية عجمان جامعة، وافتُتحت لها عدة فروع في العين، وخارج الدولة.

ونورد هنا لقاء الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان- رحمة الله عليه- بالتجار ورجال الأعمال فى الإمارات، وحثهم على إقامة المشاريع الخيرية كالمدارس والمستشفيات والجمعيات الخيرية.

لا أظن أنَّ الدولة كانت محتاجة إلى مشاريع وتبرعات هؤلاء التجار ورجال الأعمال، وإنما القصد منها حثهم، وحث غيرهم من القادرين على البذل والعطاء ليكونوا مثلًا يحتذى  لغيرهم من أهل الخير.

ونختم مقالنا بالقول إنه إذا صحَّ ما يُقال عن الشرائح والقضايا التي طرحناها، فإنَّ الأمر بحاجة إلى مزيد من النظر والدراسة والتأمل، لأنها تدق ناقوس الخطر.

وإلى لقاء في مقال آخر بإذن الله.

** كاتب وأكاديمي

تعليق عبر الفيس بوك