غادر مُخلِّفًا بقاياه

 

نور بنت محمد الشحرية

كعادة كل عام يرحل ديسمبر ويزيد أحاد السنة الميلادية بواحد عن سابقتها، وتبدأ الأمنيات وتتراوح التوقعات والتكهنات عما ستكون عليه السنة المقبلة، متمنين أن تحمل في طياتها بشائر خير وتكون أفضل من العام المنصرم.

ولكن أي رحيل لباقٍ؟ وما نحن فيه لم يرحل عنَّا ويلملم شتاته تكرما منه مع السنة المغادرة.

التوقعات والتنبؤات في ظل واقع معاش لم يتغير كمن يحلم باليقظة، لا أدري لماذا نصاب بالخيبة أن أقبل العام الجديد ولم نصبح على ما نريد؟ وكأن الزمن معه عصا سحرية لتقلب كل شيء رأسا على عقب!

توقع الخير والتفاؤل لا يعني أن المستحيل سيتحقق في غمضة عين وجميع المؤشرات واضحة للعيان وضوح الشمس.

وكأني بالعام الجديد مُقبل على استحياء منا، نتوقع الكثير منه وسيخيب أمل الغالبية منِّا إن لم نحكم النفس فيما نأمله ونرجوه.

ما يفرق الساعة الأولى ليناير عن آخر سويعات ديسمبر ثانية تتبعها أخريات حتى تمضي أيام تليها شهور، ولا يحدث العجب المنتظر.

حروب بالجوار لم تنتهِ منذ سنوات وحرب انبثقت هناك بعيدا عنَّا، ألقت بظلالها السوداء على اقتصادنا كحال جميع أقطار المعمورة التي تؤثر عليها تبعات هذه الحرب، والحروب دائما ليست اختيارا بل إجبار ظروف أو معطيات أو مسببات، وهي حرب لم نخض غمارها ولكن فرض علينا تحمل تأثير تبعاتها لارتباطنا بهذا العالم بالإيراد والاستيراد.

العملية العسكرية التي أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن القيام بها في الأراضي الأوكرانية وبدأها في 24 فبراير 2022م يبدو أنه لم يقم بتقدير تبعاتها كما ينبغي، أو أنه لم يكلف نفسه عناء التفكير في السيناريوهات المحتملة بعد قيامها، ليجد نفسه غارقا في حرب قسمت العالم تبعا لمساندة الدول لروسيا أو أوكرانيا المدعومة بحلف الناتو أو دول تقف بينهما على حياد، الحرب التي ظن بوتين أنها عملية ستنتهي في غضون أسابيع بخضوع أوكرانيا وانتصاره المؤكد استمرت لعشرة أشهر منذ بدايتها إلى نهاية ديسمبر 2022 مخلفة حسب ما أعلن عنه رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة الجنرال مارك ميلي ما يفوق الـ100 ألف جندي من كل طرف بين قتيل وجريح و40 ألف أوكراني مدني بين قتيل وجريح وتحويل ما بين 15 إلى 30 مليون أوكراني إلى لاجئ والأعداد في ازدياد إلى أن تنتهي هذه الحرب المستعرة.

فبلاد العم سام كالعادة لم تقف موقف المتفرج فقد اتبعت سياسة ثلاثية الأبعاد، تقوم على دعم عسكري ومالي واستخباري لأوكرانيا، وفرض عقوبات على روسيا مع زيادة الوجود الأمريكي العسكري في دول حلف الناتو القريبة من أوكرانيا.

وربطت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن تلك المساعدات العسكرية بمصالح الولايات المتحدة، وقد بلغت قيمة المساعدات للعام 2022، نحو 20 مليار دولار وتعهد بمساعدات تزيد على الثلاثين مليار للعام 2023.

وبالنظر إلى استقبال واشنطن للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينكسي في البيت الأبيض أواخر ديسمبر من العام 2022 وخطابها أمام الكونجرس الذي أرفقته بهدية تمثلت بمنظومات باتريوت والتعهد بمليارات الدولارات، فإن أمد الحرب سيطول، ومن وجهة نظر الكرملين فإنَّ زعزعة استقرار الاقتصاد العالمي لمدة أطول مما يستطيع الغرب أن يصبر عليه تتجلى في إطالة أمد القتال، وأن المسألة لم تعد الاضطرار إلى كسب الحرب في الوقت الحالي، خاصة أن الخصم يحظى بالدعم من الخارج، من دول قد لا تتحمل شعوبها كلفة المعيشة خلال فصل الشتاء، وهو ما سيؤثر على مدى تصميم الحكومات الاستمرار في تقديم الدعم إلى أوكرانيا.

وارتباط معيشة المواطن بالدول العربية النفطية بأسعار المحروقات في أزمات الحروب لا يسر بأي حال، وإن ارتفع سعر النفط وزادت ميزانية الدول، واستطاعت أن تحل مشكلة العجز، وتحقق فائضا ماليا من عوائد النفط، إلا أن ارتفاع معدلات التضخم المستورد الناتج عن ارتفاع تكاليف الإنتاج بسبب ارتفاع أسعار الطاقة، سرعان ما يقض مضجع الاقتصاد في تلك الدول؛ كون الدول النفطية دول غير مُصنعة وتعتمد على استيراد احتياجاتها من السلع والخدمات فإن الحصة الأكبر من أموال العائدات النفطية مآلها للدول المصنعة والمنتجة للخدمات، وهذه الضغوط التضخمية تؤثر سلباً على معيشة المواطن؛ إذ ترتفع الأسعار وتزيد الضرائب، والمتأثر الرئيسي هم محدودو الدخل، وهي الفئة التي توليها الحكومات بالمنطقة جل الرعاية والاهتمام لصعوبة الوضع الاقتصادي عليها.

وهناك العديد ممن لا يمكن إدراجهم في سجلات وزارة التنمية الاجتماعية من ضمن ذوي الدخل المحدود لعدم انطباق الشروط عليهم، ويعانون الأمرين بسبب القروض البنكية التي تقتص من رواتبهم أو بسبب عدم تمكنهم من الموازنة بين ما يستلمونه من رواتب وبين متطلبات المعيشة في الوقت الحالي، ويعتقد الجميع أن السنة الجديدة تحمل معها مفاجآت مالية سارة.

وقد لا يكون العام 2023 هو العام الذي ستنفرج فيه أسارير محافظ النقود أو الأرصدة البنكية للأفراد، وأن ثقافة الاستهلاك السليم وتوازنها مع الموارد المالية لكل فرد أو أسرة واستبعاد الكماليات بقدر المستطاع من قوائم المشتريات، خاصة التي تخل قيمتها بميزانية الفرد هما المطلب لكل خطة مالية إلى أن تنفرج الغمة.

وفي سبيل تعليل النفس وشكر النعم نستذكر في مثل هذه الليالي الشتوية أننا لسنا أطراف الحرب المباشرين، وأننا نرحب بالشتاء بشتى الطرق الاحتفالية التي تجلب البهجة للروح، وأن المواطنين في الدول طرفي الحرب وأخوه لنا أيضا نازحين بسبب الحروب في أوطانهم يصارعون البرد القارس بدون بيوت تأويهم أو تدفئة توفر لهم، يفترشون ويلتحفون الثلج وبعضهم لا تصمد أنفاسه ويقضون بين أحضانه.

تعليق عبر الفيس بوك