السيميائية.. تواصلٌ بلغاتٍ متعددة (1)

 

د. محمد بن سليمان الحارثي **

 

السيميائية أو السيميولوجيا مصطلح يُعرَّف ببساطة شديدة بأنَّه العلم الذي يعنى بفن الدلالة أو الإشارة التي ترمز لشيء مُعين وهو ما أكده أحد علماء السيميائية "أومبيرتو إكو" حين قال إنَّ السيميائية هي كل ما يعد إشارةً، وبسبب هذا التعريف نستطيع القول إن السيميولوجيا هي علم الدلالة في مُجتمع ما، وهي لغة تواصل بين فئات ذلك المجتمع.

لكننا إنْ احتجنا إلى تفصيل مستفيض لزيادة الفهم وحتى نصل إلى مفهوم يقترب كثيرًا إلى أذهاننا، فإننا نقول إنه رمزٌ أو إشارةٌ أو كلمة أو صوت ربط بدلالة ومعنى معين، وهذا ما يوضح سبب ربط مفهوم السيميائية باللغة عند التعريف لها بشكل أوسع؛ سواءً كان تعريفها رمزا أو إشارة فإننا نفهم بعد ذلك أن السيميائية هي المعاني والأهداف المضمنة لمحتوى ما بين السطور.

لا يختلف اثنان على أن السيميائية مصطلح فلسفي وعلم واسع يتداخل ويرتبط بعلوم عدة وأكثرها تداخلًا وبروزًا هو علم اللغويات وعلم الاجتماع؛ فالسيميائية الاجتماعية هي علم الدلالات الاجتماعية التي تعنى بعلم حياة العلامات في المجتمع من أجل التواصل وهو ما يتضح جلياً عندما يشرع في بناء ودراسة تصميم الناس للغة رمزية ذات تفسير محدد تكون بعد ذلك لغة التواصل بين فئة يربطها رابط مشترك. ولنضرب مثالا على أوضح الإشارات في اللغة من خلال أحد الموروثات الشعبية التقليدية العمانية وهي الأمثال العمانية التي قد تدل على إشارة واضحة لمعنى واضح أو إشارة مبطنة لمعنى غير واضح. ومن خلال الأمثال أوجد الإنسان العماني نمطًا سيميائيًا يتواصل من خلاله مع نظيره بطريقة قد لا يفهمها شخص آخر من مجتمع آخر، وإن كان يتحدث بنفس اللغة؛ فعندما يقال في المثل العماني: "إذا ناخ الجمل كثرت سكاكينه"، وهنا في الدارجة العمانية يقصد به معنى بعيدًا وكأننا نستخدم التورية كأحد المحسنات اللفظية البديعية في اللغة.

كلنا يعلم ارتباط الأمثال الشعبية بالمواقف الاجتماعية والمثل يشير هنا إلى معنى وهو أن الإنسان إذا كثرت أخطاؤه وهفواته لا بُد في الأخير من سقوط قد لا يعقبه وقوف على القدمين، وهذا هو المعنى البعيد للمثل الشعبي لكن المعنى القريب له قد يفهمه عامة الناس بلا شك فمتى ما ناخ الجمل أصبح صيدًا سهلًا للذبح.

تتضح السيميائية الاجتماعية أيضًا في الخطابات الجماهيرية المستندة إلى اللغة كإشارة لمعنى محدد قد يكون مباشرًا يفهمه الجميع أو أن يكون غير مباشر يحتاج إلى تبيان وتوضيح. ويأتي بالتحليل والتفسير حسب الخلفية العلمية والاجتماعية والاقتصادية والفنية للمحلل. وهذه الأمثلة لا تقتصر على اللغة المنطوقة وحسب، وإنما تشمل الفنون البصرية بشتى أنواعها؛ فعلى سبيل المثال: الإعلانات الناجحة بشتى أنواعها قائمة على فكرة ما تستند هذه الفكرة على هدف معين يوصل رسالة محددة تكون كوسيط بين مرسل ومستقبل في مجتمع أو بيئة ما. مثل إعلان الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما عندما ترشح للرئاسة واستند إلى كلمتي hope (الأمل) وprogress (التقدم)، أشار إلى رسالة باراك أوباما وهدفه من الحملة الإعلانية للترشح وهو تحقيق الحلم الأمريكي بحياة أفضل لكل مواطن حال ترشحه وانتخابه كما تجرد الإعلان من العنصرية وارتباطه بالوطنية.

كما استخدم فنان الشوارع شيبارد فيري Shepard Fairey المعالجة الرسومية للصورة بألوان العلم الأمريكي، ولم يستخدم الصورة الحقيقية في الإعلان، ولو سألنا أنفسنا لماذا اختار الفنان هذه الصورة ليحولها لصورة رسومية؟ الإجابة أنها قد تكون ترجمة العمل الفني للفنان لرسالة باراك أوباما في أن يوصل للشعب الأمريكي العدالة الصرفة والبعد الواضح عن التفرقة العنصرية مثلما كان يريد توصيلها أوباما للمتلقي، كما إن لغة الجسد تعد أيضًا إشارة مهمة من خلال نظرة باراك أوباما للأعلى والتي ترمز للتفكير بمستقبل أفضل لأمريكا وهذا الأسلوب الذي انتهجه الفنان أصبح إشارة وسيميائية في توجه الآخرين بعد ذلك عندما قلدوه بوضع صورهم بنفس الطريقة.

لم يَحتجْ فنان الشوارع الأمريكي للغة مسهبة مستفيضة لتوصيل رسالته من خلال الإعلان الدعائي لانتخاب باراك أوباما للترشح لمقعد الرئاسة؛ فالصورة أبلغ وأسرع في إيصال الرسالة وإنما حدد ذلك في كلمة مقتضبة شرحت وأوصلت المطلوب إيصاله.

وأخيرًا.. إنَّ للسيميولوجيا الاجتماعية إشارات مدروسة لتوصيل رسائل محددة بلغات وطرق متعددة تم شرحها في كتب ثرية، أدعو القارئ للاستفادة منها مثلًا كتاب "أسس السيميائية" للكاتب دانيال تشاندلر ترجمة الدكتور طلال وهبة.

** مدرس التصميم الجرافيكي بكلية الزهراء

تعليق عبر الفيس بوك