الدمج الاجتماعي لأطفال التوحد.. الترياقٌ الناجعٌ

مختصون: عوامل وراثية وراء الإصابة بـ"التوحد".. والكشف المُبكر يحد من الأعراض

◄ 80 % من احتمالات الإصابة بالتوحد مرتبطة بالجينات الوراثية

العميرية: لا يوجد سبب واضح للإصابة بالتوحد.. والعلاج يختلف بحسب كل حالة

المعولي: التأخر في الكشف على الأطفال يعيق تحسن الجوانب النمائية

فاروق: أعراض التوحد تختلف من شخص لآخر.. والمصابون يرون العالم بشكل مختلف

الغنبوصي: يجب اعتماد مؤهلات متخصصة في مجال التوحد

الرؤية- سارة العبرية

يعد التوحد" من المشاكل الصحية التي تؤرّق حياة الأسر لأنه يصيب الأطفال وتبدأ معه رحلة طويلة من العلاج وتعديل السلوكيات، حيث يشخص المتخصصون هذا المرض تحت مسمى: "اضطراب طيف التوحد". ويعود سبب تسمية التوحد بهذا الاسم لأنَّ الأعراض التي يعاني منها الأشخاص المصابون تتنوع وتختلف من شخص إلى آخر، فقد تظهر علامات بسيطة مثل الضعف الواضح في قدرات ومهارات التواصل الاجتماعي، وتكرار سلوكيات مُعينة بشكل أكثر من الطبيعي، أو تكون الأعراض عبارة عن ردات فعل مفرطة الحساسية لبعض المثيرات الخارجية مثل الروائح والأصوات، كما قد يكون لدى الفرد إصابة شديدة بالتوحد تجعله معزولا بشكل شبه كلي عن العالم.

وتسهم وزارة التنمية الاجتماعية والمراكز التابعة لها في العناية بأطفال التوحد باستخدام تدخلات علاجية جيدة تقدم من قبل مختصين وفي ظروف تعليمية مناسبة، وذلك من خلال المركز الوطني للتوحد والمراكز المنتشرة في أنحاء السلطنة والتي تقدم الدعم للمتعلمين ممن يعانون من طيف التوحد في تقليل الفجوة في التحصيل العلمي واللغوي والمعرفي بينهم وبين أقرانهم.

الأسباب والعلاج

تقول الدكتورة كفالة بنت حمود العميرية، مدير مساعد دائرة التنمية الأسرية بالمديرية العامة للتنمية الاجتماعية بمحافظة الداخلية، إن سبب الإصابة باضطراب التوحد غير واضح حتى الآن، ولا يوجد سبب أساسي لحدوث هذا الاضطراب، مضيفة أن هناك عدة عوامل تزيد من احتمالية الإصابة بالتوحد مثل: العامل الوراثي والاضطرابات الدماغية والعصبية، بالإضافة إلى عوامل بيئية وأمور أخرى تتعلق ببعض اللقاحات التي تسبب هذا المرض.

وتشير إلى وجود اختلافات في الآراء حول الإجراء المناسب لعلاج التوحد، باعتبار أن الحالات المصابة بالتوحد تحتاج إلى أساليب وطرق متباينة حسب تشخيص الحالة، لأن كل حالة تحتاج إلى عناية خاصة من حيث البرامج العلاجية المقدمة، مع مراعاة العمل على تنمية وعي الأطفال المصابين بذواتهم وبعلاقتهم بالآخرين، ومحاولة إقامة نظام "الدمج" وتطبيقه مع الأطفال العاديين ليكتسبوا اللغة والمعايير الاجتماعية من أقرانهم الأسوياء، والتركيز على الأنشطة المفضلة لهم مع إجراء بعض التعديلات، والتركيز على المهارات التي توجد لديهم وتنميتها.

وترى العميرية ضرورة الارتقاء بمهارات العاملين في مجال التوحد، عبر تدريبهم على طرق التدريس التي تساعدهم على التعليم بالتدريب السمعي وحث الطفل على تقليد الأصوات، بالإضافة إلى تطبيق طريقة "تيتش" وهي طريقة تعليمية شاملة مصممة بشكل فردي حسب احتياجات كل طفل، وكذلك طريقة "فاست فورورد" وهو برنامج إلكتروني يعمل على تحسين اللغة عند الطفل، بالإضافة إلى طريقة التواصل المُيسر التي تعتبر أسلوبا لمساعدة الطفل الذي يعاني من عجز في التعبير عن نفسه.

وتفيد الدكتورة كفالة العميرية أن ممارسة الأنشطة البدنية تعزز من صحة الطفل النفسية، كما أن تعليمه مهارات المحادثة والتفاعل الاجتماعي يساعده في التخلص من السلوكيات غير المرغوبة، ناصحة المتخصصين في التعامل مع هذه الفئة بضرورة الاطلاع على كل ما هو جديد في علاج مرضى التوحد، ومشاهدة المقاطع المرئية ومتابعة القنوات التي تساعد على التعامل مع الطفل المصاب بالتوحد وتطوير مهاراته مثل قناة الشاملة للتوحد، وقناة عالم التوحد، وقناة دكتور أحمد عبدالخالق، والاهتمام بتنزيل التطبيقات المتخصصة عبر الهواتف الذكية مثل Famisafe"," Bark"".

العوامل الجينية

توصلت دراسة علمية جديدة أُجريت على أكثر من مليوني طفل من خمس دول مختلفة، إلى أن العوامل الجينية لها الدور الأكبر في إصابة الأطفال بالتوحد، لكنها وجدت أن البيئة لها دور أيضًا في خطر الإصابة. وتشير الدراسة إلى أن معظم الاختلافات في احتمالية الإصابة بالتوحد يمكن إرجاعها لأسباب جينية أكثر من العوامل البيئية كأسلوب الحياة وسمات المجتمع وما يحدث أثناء الحمل. كما أشارت أبحاث أخرى إلى أن بعض السمات غير الموروثة وتصرفات وأساليب الأمهات قد يكون لها دور في ذلك.

وقام الباحثون بفحص بيانات مواليد في الفترة من عام 1998 إلى عام 2007 في الدنمارك وفنلندا والسويد والاحتلال الإسرائيلي وولاية أستراليا الغربية، وخلصت الدراسة إلى أن نحو 80% من الفروق في احتمالات الإصابة بالتوحد مرتبطة بسمات جينية موروثة، لكن ذلك يتراوح بين أقل نسبة سجلتها الدراسة في فنلندا وهي 51% إلى أعلى نسبة في الاحتلال الإسرائيلي وهي 87%. وأضاف الباحثون في الدراسة التي نشرت في دورية "جاما سيكاتري" العلمية أن ما يسمى بالتأثيرات المتعلقة بالأمومة، مثل الولادة المبكرة والإصابة بمشكلات صحية معينة خلال الحمل، لم تفسر فيما يبدو الفروق في احتمالات الإصابة بالتوحد.

وقال الدكتور جيريمي فينسترا فانديرويلي، طبيب نفسي في مركز التوحد وتطور المخ بمستشفى نيويورك: "تلك النتائج لا تغير ما نفعله فيما يتعلق بمكافحة الإصابة بالتوحد أو علاجه، لكنها تشير إلى أن علينا التفكير في إجراء فحوصات جينية باستخدام التكنولوجيا المتاحة الآن وفي استخدام مقاربات أخرى قد تحقق تقدما على مدى العقد المقبل، ومن الممكن أن يفضي الفهم الأفضل للمخاطر الجينية إلى التنبؤ بالمخاطر قبل التشخيص في المستقبل بما يسمح لنا بالتدخل قبل التشخيص".

تشخيص الأطفال

يؤكد الدكتور محمود بن سالم المعولي، مُرشد نفسي بجامعة السلطان قابوس، أنه يمكن تشخيص الأطفال المصابين بأعراض التوحد عند عمر 18 شهرا أو أقل من خلال مركز السيطرة على الأمراض المعدية، لكن التشخيص الذي يجرى عند عمر سنتين يكون أكثر اعتمادية وموثوقية، مضيفا: "للأسف ينتظر بعض الآباء لمدة أطول لتشخيص أبنائهم بالمتلازمة، فقد ينتظر البعض حتى سن 4 سنوات أو أكثر لإجراء التشخيص مما يُعيق العديد من الجوانب الإنمائية للطفل مثل تأخر النمو في مهارات التواصل الاجتماعي واللغوي وتأخر المساعدة من قبل المختصين".

ويشدد المعولي على ضرورة تشخيص اضطراب "طيف التوحد" من قبل مختصين في مجال التربية الخاصة أو الأطباء المختصين، وذلك من خلال المتابعة المستمرة للمظاهر النمائية للطفل مثل متابعة النمو في مختلف خلال مرحلتي المهد والطفولة المبكرة مثل النمو اللغوي واللعب وسرعة التعلم والسلوك الظاهري وحركات الجسم الظاهرية، كما يمكن تشخيص الجوانب النمائية من قبل طبيب الأطفال المختص عند أعمار 9 أشهر، و 18 شهر و30 شهرا.

وتنصح الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال بعمل تشخيص خاص لطيف التوحد عند عمر 18 شهرا وعند عمر 24 شهرا وذلك من خلال إجابة الآباء على العديد من الأسئلة المعدة للتشخيص وتقييم المظاهر النمائية للطفل، وعند ملاحظة وجود مشاكل نمائية عند التشخيص لابد من عمل تشخيص طبي تفصيلي.  

ويرى المعولي أن الارتقاء بالمهارات المهنية للعاملين في مجال التوحد أحد أهم المبادرات التي ستعزز من جودة الخدمات المقدمة للأفراد الذين يعانون من طيف التوحد وذلك من خلال التعليم والتدريب المستمر من قبل أكاديميين ومتخصصين في مجال التربية الخاصة والطب النفسي، لافتاً إلى أهمية تهيئة البنية التحتية التي تمكن الأخصائيين من القيام بعملهم على أكمل وجه مثل توافر أدوات التشخيص وتوافر المرافق التي تسهل من عملهم وتعزز من جودة الخدمات المقدمة للفئة المستهدفة.

وينصح الدكتور محمود المعولي الآباء بتقبل الطفل أيا كانت حالته ومساعدته والاهتمام به وتشخيص حالته في مراحل متقدمة وعدم الانتظار لفترة طويلة لتجنب الآثار السلبية الناتجة عن تأخر المساعدة المختصة، وطلب المساعدة والتشخيص من الأخصائيين والأطباء الذين يمكنهم القيام بالتشخيص بطريقة صحيحة وتبني الخطة العلاجية المقترحة، والعمل كفريق لأجل مصلحة الطفل، وتجنب التذمر من حالة الطفل أمامه أو أمام الآخرين وطلب المساعدة من المختصين ومن الأقرباء الذين يثق فيهم الطفل للمساعدة في تربيته، وأيضا طلب المشورة النفسية والأسرية من المرشدين النفسيين أو الأخصائيين لتقديم الدعم المعنوي اللازم للأبوين والطفل، بالإضافة إلى أهمية التوعية المجتمعية للتعامل مع الماصبين بالتوحد.

وتشرح الدكتورة رانيا فاروق محمد أخصائية التوحد وتأخر الكلام والإرشاد الأسري بجامعة عين شمس في مصر، أن أعراض التوحد ودرجاتها تختلفان من شخص لآخر، موضحة: "على سبيل المثال بعض الأشخاص المصابين بالتوحد لا يستخدمون اللغة المنطوقة، بينما يتمتع مصابون آخرون بالتوحد بمهارات لغوية ممتازة، لكن قد يجدون صعوبة في فهم ما يعنيه الآخرون، كما قد يتميز الكثير من المصابين بالتوحد بالذكاء الحاد، والقدرات العقلية الفائقة، وسرعة التعلم، وقد يعاني بعضهم من الإعاقات الذهنية وصعوبات التعلم، وبعض الاضطرابت العقلية والنفسية؛ كالقلق والاكتئاب ومتلازمة تشتت الانتباه وفرط الحركة".

وتقول: "إن التوحد اضطراب يؤثر في نمو الدماغ، وكيفية إدراك المصاب للعالم والناس، وكيفية التفكير والتصرف والتواصل مع الآخرين، ويمكن القول أن الأشخاص المصابين بالتوحد يرون العالم بشكل مختلف عن غيرهم، فلا يدل استخدام مصطلح طيف التوحد على أنه درجة أخف من التوحد أو بمعنى آخر ليس معناه أن الطفل ليس لديه توحد ولديه طيف توحد ".

ويتحدث عبدالله بن علي الساعدي، أخصائي التعليم الدامج لأطفال التوحد بالإمارات العربية المتحدة، أن علامات اضطراب التوحد تبدأ في الظهور عبر ما بين السنتين ونصف والثلاث سنوات، لأنه في هذا العمر تكون بعض السلوكيات النمائية ظاهرة مع الأطفال الاعتياديين ويفتقدها أطفال التوحد، ومنها ضعف التواصل البصري وصعوبة تكوين جملة من كلمتين وضعف التواصل مع الآخرين، وأيضا عدم الاستجابة للنداء، مشيرا إلى أن هناك مؤشرات تدل على التوحد وعند رؤيتها يجب الذهاب إلى دكتور الأطفال حتى يعرف سبب هذه السلوكيات ومنها المشي على أطراف الأصابع، الحركات النمطية مثل رفرفة اليد ضعف التواصل البصري، كما يجب أن يكون التشخيص من خلال اختصاصي نفسي وفريق مختص في عدة مجالات حتى يكون التشخيص دقيقا ويتم الرجوع إلى مقاييس "DSM5" وهو الدليل التشخيصي والإخصائي للاضطرابات النفسية.

ويضيف: "الإجراء المناسب لعلاج التوحد هو التأهيل السلوكي وتطبيق برنامج تحليل السلوك التطبيقي "ABA" في تأهيل أطفال التوحد وهو علم مختص بالسلوكيات في رفع السلوكيات الإيجابية وخفض السلوكيات السلبية والتدريب على المهارات الإستقلالية والمهارات الإجتماعية، كما يجب على الأهل مساعدة الابن المصاب بأسرع وقت والاتحاق بمركز تأهيل"، مطالبا بتكثيف الجهود لتنظيم ورش عمل ومحاضرات مستمرة وتوفير التخصصات في الجامعات وكليات التربية لنشر الوعي المجتمعي ودعم أطفال التوحد.

من جهته، يدعو راشد بن حمد الغنبوصي مشرف تربوي بوزارة التربية والتعليم سابقا، إلى تهيئة البيئة التعليمية المناسبة ووضع مناهج وأهداف تعليمية لأطفال التوحد وأنشطة تناسبهم في المدارس، وتوعية المجتمع بهذه الفئة حتى يسهل دمجهم، وإلحاق الأبناء بجلسات التأهيل والتعرف على المرض وكيفية التعامل معه ودمجهم مع الأطفال الأسوياء في المرافق العامة وعدم التردد والحرج في ذلك، والمطالبة بحقوق أطفال التوحد في التعليم العادل والبيئة التعليمية الآمنة، ومشاركتهم في الفعاليات التي تنظمها الجمعية العُمانية للتوحد.

كما يطالب الغنبوصي باعتماد مؤهلات متخصصة بمجال التوحد في مؤسسات التعليم العالي ذات العلاقة، وعمل دبلوم للمعلمين والمعلمات لكيفية التعامل مع أطفال التوحد في المدارس، والحث على النمو المهني المستمر للعاملين في هذا المجال بتشجيعهم وربط ترقياتهم بمدى تطورهم وخدماتهم الاجتماعية التطوعية.

 

تعليق عبر الفيس بوك