كيف يتفرْعَن الضعيف؟!

 

حمد بن سالم العلوي

 

لا تتفاجأ بتغير سلوكيات بعض النَّاس؛ بل ابحث عن السبب لكي يبطل العجب، فقد ترى شخصًا ما قد تغيرت أحواله وتصرفاته، فربما كنت يومًا من الأيام تشفق عليه من شدة لطفه وبساطته، ولكن تجده قد تغيّر وتنمّر بمرور الزمن، وما كان له أن يتغيّر بذلك الشكل السلبي، لولا حالة الضعف التي رافقته خلال حياته الماضية، وكذلك من تراهم يبالغون في الخنوع والانحناء أمام من يشعرون أنه صاحب سلطة عليهم، فذلك بالطبع ينم عن شخصية ضعيفة، وقد لا تقرهم أنفسهم على ذلك الفعل الذي يظهرون فيه من الطاعة العمياء.

ولكن خطورة هؤلاء الضعفاء، تظهر مع مرور الأيام، وبصورة تدريجية وخاصة مع تدرجهم في السلطة التي منحتها لهم الوظيفة الرسمية، وهنا يُظهرون كل تلك العقد التي كانت مكبوتة في النفس، فبقدر ما خنعوا وتمسكنوا وتذللوا، يقومون بإذلال الآخر والتكبر عليه، وبقدر ما حنوا من رقابهم ورؤوسهم، وقوسوا من ظهورهم، فتجدهم يرفعون رؤوسهم اليوم بحكم السلطة، ويتعالون على غيرهم انتقامًا من ماضيهم، وبعنجهية فيها غلو كبير لا يتوافق وسمات المُجتمع الذي يعيشون فيه.

لقد سمعت عن مسؤول في إحدى المُحافظات، وقد أغلق باب المكتب على نفسه، وهو يُمثل وزارة خدمية، فصار يُعامل الناس وكأنه رجل آلي، ففي المحافظات لا يقبلون الناس هذا التصرف، وإنما يريدون مقابلة المسؤول مباشرة، حتى لو لم يحصلوا على شيء منه، ولكن المهم عندهم الاستقبال الجيد، والترحيب الذي يليق بهم، وهم بالطبع لن يجبروه على منحهم شيئا ليس من حقهم، ولكن في المسألة إقناع واقتناع، وهناك مثل يقول؛ "لا تكن ليِّنا فتعصر، ولا يابسا فتكسر" أما أن تكون كالرجل الآلي مع الناس، فذلك قد يُتقبل في محافظة مسقط "العاصمة" لأنَّ الناس تعودوا على التعامل مع الأجهزة الآلية، أما في المحافظات والمناطق البعيدة، فالناس ما زالوا على سجيتهم القبلية.

وفي المقابل هناك مسؤول آخر في محافظة أخرى، ويتبع نفس الجهة، ولكنه يرحب بالناس، ويُقابلهم مقابلة حسنة، ويخدمهم خدمات جليلة، ولا يفرط في تطبيق النظام والقانون، والنَّاس يثنون عليه.. وعلى خلقه الطيب، ويتمنون لو يظل في نفس المكان، وهذا على عكس المسؤول المشار إليه في الفقرة السابقة، فالناس يتمنون لو ينقل اليوم قبل غدٍ "ليكسروا خلفه قحف" وذلك لكثرة ما أشيع عنه من جلافة وقسوة مع الناس.

وهنا أشير إلى مُلاحظة تكلم عنها الزميل عباس المسكري، عندما قال؛ رأيت حافلة مدرسية تنقل الطلبة لزيارة بعض مسؤولي الولاية في مكاتبهم، ويقول كم تمنيت لو كان يحصل العكس، بحيث يقوم المسؤول ذاته بزيارة الطلبة في مدارسهم، حتى يتعلمون منه التواضع، وإظهار حرصه على إشعار الطلبة بأنَّه يهتم بهم ويشرف عليهم، ويتحسس احتياجاتهم وحل ما يمكن حله من مشاكل قد تواجههم، فعجبت لهذا الطرح وأضع رأيي مع رأي الزميل المسكري، فنرجو من المسؤول أن يذهب هو إلى المدارس والكليات ولا بأس أن يدعوهم للزيارة، وذلك حتى لا يتعود الطلبة على تأليه المسؤول، وأنه هو الآمر والناهي وتجب له الطاعة دومًا، ومن هنا تكبر الفكرة مع هذا الشاب، وعندما يكون في مكان ذلك المسؤول يومًا ما، فقد يقلد المسؤول المزار، وقد يترسخ في ذهنه أن المسؤول يُزار ولا يزور، فلا يكون هنا في مقام القدوة الحسنة التي يجب أن يتأسى بها جيل المستقبل.

لقد قال السلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- ذات مرة، وهو يرعى تخريج دفعة من ضباط الشرطة: ".. وعلى الشرطي أن يُقابل الناس بلسان حلوٍ ووجه بشوش مهما كانت الظروف"، فإذا كان هذا التوجيه موجه إلى جهة مسؤولة عن إنفاذ القانون وحفظ النظام، فما بال من أوكل إليهم تقديم خدمة مدنية عامة، ولكن المسؤول يلوذ بالجدران عن مقابلة الناس، وما الضرورة إلى وجوده أصلًا، إذا كان سيترك الأمر للموظف العادي لحل مشكلات الناس أو تعقيدها.

من المؤكد أن الإنسان الشجاع والملم بعمله، لا يتوارى خلف الجدران عن مقابلة الناس، فمقابلتهم ليست بالسيف والخنجر، وإنما بالقرطاس والقلم، فينبغي عليه وهو في هذا المنصب الرفيع، أن يقابل العلم والمعرفة بما يناسبها، ولن يجبره أحد على مخالفة القانون، فالذي عرف عن الإنسان العُماني، شدة تمسكه بالعدل والمساواة، واحترام الآخر ولموظف الدولة مكانة خاصة عند الجميع.

إذن؛ هذا يحدث نتيجة لضعف الرقابة والإشراف على المسؤولين خاصة من فصيلة الضعفاء، وسوف لن يجعلوا من أنفسهم فراعنة زمانهم إن هم وجدوا محاسبة، وكما يُقال؛ سئل فرعون عمّن فرعنه، فقال؛ تفرعنت ولم يمنعني أحد من التفرعن، وهكذا تغوي النفس الأمّارة بالسوء صاحبها وتحضه على الطغيان والتكبر الأجوف، وأقول عنه أجوف لأنه "بجرة قلم" ينتهي كل شيء، ولو أنه تذكر كيف كان حاله قبل التوظف، لوجد الجواب الذي يمنعه من التعالي على خلق الله، فقد كان يتوسل الناس حتى يجد وظيفة تكفيه عن الحاجة.

الأمر الغريب أن هذا الموظف المتفرعن، تجده يعيب على غيره عندما لا يجد من يُقدم له الخدمة التي يطلبها بسهولة، وهو ما زال في الوظيفة، أو أنَّه لا يجد الاحترام الذي يليق به، فعجبًا كيف ينتقد الآخرين والنقد فيه! وعندما يتقاعد سيشمتون منه ومن أفعاله السابقة، وسيقضي ما تبقى من عمره في توارٍ عن مقابلة الناس، كما هو حال بعضهم اليوم.. فلا تتفرعن أيها الضعيف حتى لا تندم قريبًا.