جامعة نزوى تعكف على مشروع عالمي لإنتاج موسوعة ومعجم لغوي

د. نائل حنون لـ"الرؤية": أدلة على مدن مطمورة من حضارة عُمان القديمة.. وأدعو لتأسيس "علم آثار عُمان"

◄ تعاون بين جامعة نزوى ووزارة الثقافة للكشف عن المدن العُمانية القديمة

◄ الشعب العُماني يملك تاريخًا عريقًا وحاضرًا مشرفًا وزينته التواضع والتسامح

◄ بعد عودتي من جامعة "تورنتو" اكتشفت مدينتي "مَرَد"و"ميتُرناة" في العراق

الرؤية- ناصر أبو عون

تحفل مسيرة البروفيسور وعالم الآثار العراقي نائل حنون، بالعديد من الكنوز العلمية والمعرفية المرتبطة بعلم الآثار واستكشاف المدن القديمة، فقد استطاع أن يوظّف مهارات السكان المحليين للتنقيب واستكشاف مدينتي "مَرَد" و"ميتُرناة" في العراق، وفي سلطنة عُمان يعمل حنون على مشروعات استكشافية بحثية تحت مظلة جامعة نزوى ومركز الخليل بن أحمد الفراهيدي للدراسات اللغوية والإنسانية.

وفي حوار مع "الرؤية"، تحدث البروفيسور نائل حنون، عن لمحات من مسيرته العلمية والعملية، وجاءت تفاصيل الحوار كالتالي:

 

 

** حدثنا عن أهم المحطات النوعية في مسيرتك العلمية وأهم المؤلفات..

كانت بداية الرحلة قبل 54 عاما، ولكنها على الرغم من كل شيء، كانت استكشافاً وتبحراً ونتاجاً بلا انقطاع، تغلت خلالها في عالم مجهول انطوت عليه حضارة رائدة عملاقة بمنجزاتها مثل حضارة وادي الرافدين. ولم تكن مرحلة الدراسة في ظل التخصص كافية، فدمجت بها المرحلة الجامعية الأولى مع مرحلة الماجستير، وكان لي في المرحلتين أستاذان معلمان مرشدان الدكتور فيصل الوائلي والأستاذ طه باقر.

لا أعرف كيف ضمنت التفوق في الدراسة في كلا المرحلتين الجامعيتين، فما كنت أعبأ بدراسة أو بشهادة بقدر ما شغفت بالتعلم وبالمزيد منه. و  ما بين حصولي على شهادة الماجستير الأولى "في الآثار القديمة" وسفري إلى كندا للحصول على شهادة الماجستير الثانية لي "في اللغات القديمة والكتابات المسمارية"، ومن ثم شهادة الدكتوراه في التخصص نفسه من جامعة تورنتو، مضت خمس سنوات شغلتها بالعمل في المتاحف وفي التنقيب الأثري، كانت السنوات الثلاث الأخيرة منها انقطاعاً تاماً متواصلاً للتنقيب في مواقع الآثار، توجت باكتشاف مدينة ميتُران "أو ميتُرناة" التي كانت مفقودة ولا يعرف عنها إلا من خلال ما ذكرته النصوص المسمارية عنها.

في تلك السنوات أدركت أن التنقيب الأثري لا يعلم في الجامعات ولا يمكن إتقانه إلا من خلال مُمارسته بشغف ونباهة، ولا يمكن أن يجيده أحد بغير العمل الشاق والتقصي والتعلم باستمرار فضلاً عن الإقدام على الاستنباط والإبداع في تطويره، وهذا الإدراك هو الذي تحكم فيما بعد في كل جهودي التي بذلتها في التنقيب والبحث والتدريس والتدريب.

أغلفة كتب (2).jpg
 

 

** وكيف كانت دراستك في جامعة تورنتو؟

مضيت في جامعة تورنتو ست سنوات للحصول على شهادة الماجستير، ومن بعدها الدكتوراه في اللغة الأكدية وآدابها، كانت تلك السنوات الست هي المدة الصغرى لأمد حدد له مسبقاً ثماني سنوات، وما كان لضعف هذه المدة أن يكفي لإنهاء البرنامج الذي وضعته الجامعة لدراستي، فقد كان علي أن أوفي متطلبات أربع سنوات من الدراسة الفصلية Course work صيفاً وشتاء، قبل أن أتفرغ لإعداد الأطروحة، وكان علي أن ألبي متطلبات التخصص في ثلاثة مجالات علمية تكمل بعضها، التخصص الرئيسي Major في اللغة الأكدية وآدابها، التخصص الثانوي الأول First minor في علم آثار غربي آسيا والتخصص الثانوي الثاني  Second minorفي اللغة السومرية، ولم يكن هذا هو التحدي الرئيسي لي، بل أن التحدي هو كيف أغترف أكبر ما يمكنني من معرفة في وقت محدد ومثقل بالمهام الدراسية.

ولحسن الحظ أن مدة دراستي شهدت قيام أحد تلك المشاريع الكبرى التي اشتهرت بها جامعة تورنتو، وهو مشروع ترجمة النصوص الملكية في حضارة وادي الرافدين، وكان صاحب فكرة هذا المشروع ومديره هو أستاذي نفسه الذي عبرت البلدان والمحيط الأطلسي للالتحاق به والدراسة تحت إشرافه، وهو الأستاذ كيرك جريسن، وعلى يده تعلمت ودرست وعملت.

أغلفة كتب (3).jpg
 

 

** حدثنا عن فترة التحاقك بجامعة القادسية وما أنجزته بعد ذلك؟

التحقت بجامعة القادسية، ولم يكن فيها قسم آثار فعملت في قسم التاريخ، ولكن رئيس الجامعة وافق على مقترح قدمته لتشكيل هيئة للتنقيب الأثري في الجامعة لتقوم بالدراسات وأعمال التنقيب الأثري، كانت الخطوة الأولى هي اختيار موقع أثري لم يسبق التنقيب فيه ويكون قرب موقع الجامعة في محافظة الديوانية في جنوب العراق، ووقع اختياري على تل الصدوم الذي يبعد نحو 16 كم عن الجامعة، وكان عالم الآثار والمسماريات الفرنسي ثورو دانجن قد كشف أن هذا التل الأثري هو موقع مدينة مَرَد القديمة التي ازدهرت قبل أكثر من 4300 عام، وكانت مركز محافظة حينذاك، واستمرت في الوجود نحو 2500 عام، وتوصلت إلى كل هذه المعلومات قبل البدء بالتنقيب في هذا التل الترابي.

بعد الحصول على الموافقات القانونية قمت بتدريب عدد من سكان المنطقة على طريقة الحفر الفني، وخلال أيام قليلة كنا قد كشفنا عن أهم معالم المدينة، ونشرت عن الحفريات التي قمت بها هناك في كتابي "حقيقة السومريين ودراسات أخرى في علم الآثار والنصوص المسمارية".

أمضيت قرابة تسع سنوات في دمشق منهمكا في عملي بين التدريس في جامعة دمشق وفي معهد الآثار والحضارة والتنقل بين المتحف الوطني والعمل في الموسوعة العربية، وسوى هذا وذاك كنت أعكف على الكتابة والبحث، فطبعت لي في تلك السنوات 8 كتب ونشرت لي بحوث كثيرة والقيت سلسلة من المحاضرات.

أغلفة كتب (1).jpg
 

 

** بعد كل هذه الرحلة.. ما ظروف مجيئك إلى سلطنة عُمان؟

جئت إلى سلطنة عُمان قبل 5 أعوام بدعوة لتأسيس متحف جديد، منحت العمل في هذا المتحف كل وقتي وجهدي، وأجلت من أجله مشاريع علمية مهمة كنت قد شرعت بها ثم أوقفت العمل عليها حين أقبلت على العمل الجديد، ما ندمت على المجيء إلى هذا البلد الكريم، وما كنت لأفوت العيش مع شعب يزهو بتاريخ عريق وحاضر مشرف، تنقلت كثيراً وتعاملت مع شعوب في الشرق والغرب فما وجدت شعباً مهذباً زينته التواضع والتسامح مثلما وجدته هنا.

كنت أعمل لعدة عقود على مشروع العمر، وحين اقتضت الظروف العودة لمواصلة العمل عليهما وعلى ما يحف بهما من بحوث ودراسات وجدت مشاريعي مهددة بالضياع، وما من مؤسسة عربية قادرة أو راغبة في احتضان المشاريع، حتى توجهت إلى  جامعة نزوى بعدما تابعت دورياتها وإصداراتها العلمية، وأعجبت بموقعها بين الجامعات العُمانية والعربية، والعالمية.

لقد فتح رئيس جامعة نزوى، الأستاذ الدكتور أحمد بن خلفان الرواحي، الأبواب أمام مشاريعي وانضممت إلى فريق عمل مركز الخليل بن أحمد الفراهيدي للدراسات اللغوية والإنسانية، ولم يضع مني وقت، فمنذ اليوم الأول ولقائي الأول مع الدكتور سليمان بن سالم الحسيني، مدير المركز، وخطط العمل تتوالى، والفرص تهيأ للنهوض بالمشاريع الكبرى والفعاليات العلمية. وما أن انقضى الشهر الأول لي في المركز حتى كان أول نظام توثيق متحفي جاهزاً في المركز، وسيشهد الشهر الثاني إشهار مشروعين كبيرين ضمن مشاريع المركز ونشاطاته.

 

 

** تنقلت بين جامعات عالمية وعربية كثيرة.. كيف ترى مستقبل جامعة نزوى؟

من المآخذ التي تشوب عمل الجامعات العربية هو رجحان كفة التدريس على البحث العلمي، ولقد تابعت عمل جامعة نزوى طوال الأعوام الأربعة التي أمضيتها في عُمان، وأعجبني توجهها للمشاريع البحثية، وكنت أشعر أن هناك رؤية عميقة واسعة الأفق صادقة تقود عمل هذه الجامعة، وحين انتهى عملي في المتحف وعدت لمواصلة العمل في المشاريع العلمية الكبيرة التي بدأت بها منذ عقود، وجدت أنها صارت مشاريع تفوق العمل الفردي وتستحق أن تحول إلى عمل مؤسساتي لترى النور، فشددت الرحال لمقابلة الأستاذ الدكتور أحمد بن خلفان الرواحي، وأعرض عليه منح هذه المشاريع الفرصة لتنجز في جامعة نزوى، والآن أستطيع القول بثقة أن هذه المشاريع سترى النور خلال وقت ليس بالطويل، وقد باتت موضوعاً للبحث والتخطيط في عمل مركز الفراهيدي وفي منهاج مديره الدكتور سليمان بن سالم الحسيني.

 

** ما تقييمك لمستقبل علم الآثار والتنقيب في سلطنة عُمان؟

قطعت السلطنة شوطا كبيرا في التنقيب عن الآثار القديمة ورصد مواقعها، وآن الأوان لانتقالها إلى مرحلة جديدة متطورة تتمثل في البحث عن المدن القديمة؛ فسلطنة عُمان موطن لحضارة قديمة من المهم وطنياً وإنسانياً وعلمياً أن يكشف عنها ويدرس دورها في تاريخ البلاد وتاريخ الحضارة الإنسانية.

وبالطبع لكل حضارة أبعاد مختلفة ومظاهر مطبعة بطابع خاص بها، ولكن المدن تمثل السمة الأساسية التي تؤشر ارتقاء الحضارة، كما أنها تمثل البوتقة التي تعتمل فيها فعاليات الحضارة ومنجزاتها الكبرى، لدينا الآن في جامعة نزوى الدليل على وجود المدن في عصور حضارة عُمان القديمة، ولدينا الإمكانية لتحديد موقع أكثر من مدينة واحدة والكشف عنها من خلال عمل مشترك لمركز الفراهيدي في الجامعة مع وزارة التراث والسياحة ومركز الدراسات الحضارية في وزارة الثقافة والرياضة والشباب، هذا العمل سوف يكون تطوراً كبيراً في دراسة حضارة عُمان القديمة وفاقاً لمنهج علمي هادف، فقد بات من الضروري إنشاء علم آثار عُمان الذي يتجاوز عمليات التنقيب في مواقع مستوطنات قديمة لم ترتق إلى مستوى المدن القديمة ولا تقدم ما يمكن للمدن أن تقدمه للدراسات الحضارية.

 

** ما أهم المشاريع العلمية التي تعمل عليها في جامعة نزوى؟

تتضمن خطة عملي في مركز الفراهيدي في جامعة نزوى سلسلة من الأوراق البحثية التي تتناول مختلف جوانب الحضارة والتاريخ القديم، فضلاً عن هذا نواصل العمل في تشكيل فرق للبحوث وإقامة الندوات العلمية والورش التدريبية، وخلال ذلك نستمر في العمل على إنجاز المشروعين الموسوعيين اللذين سيتم الإشهار عنهما في مناسبتين قادمتين مختلفتين خلال شهر ديسمبر المقبل.

هذان المشروعان يقومان على إنجاز موسوعة ومعجم لغوي جديد، وكلاهما مشروع رائد ينجز لأول مرة على المستوى العالمي وسيكون له دور كبير في إغناء حركة البحث العلمي والكشف عن المدن القديمة في كل أرجاء الشرق الأدنى، وكذلك الكشف عن التاريخ المستتر للّغة العربية بمعرفة التاريخ الحقيقي للكثير من مفرداتها، وسيقدم هذان المشروعان فوائد علمية كبيرة للدراسات الحضارية واللغوية ودراسة التاريخ القديم واللغات القديمة.

تعليق عبر الفيس بوك