مونديال قطر وانتصار الإرادة الوطنية

 

 

د. محمد بن عوض المشيخي **

 

نجحت قطر أخيرًا وبكل حكمة واقتدار في تنظيم مباريات كأس العالم لكرة القدم في الدوحة بعد تحديات وعقبات كثيرة، بدأت منذ فوز الدولة الصغيرة بمساحتها العظيمة بشعبها وقيادتها الفذة، بتنظيم هذا العرس الكروي والذي يحمل رقم التسلسلي في بطولات كأس العالم لكرة القدم، (نسخة 22) في هذه اللعبة التي تسحر عقول وقلوب الجماهير في مختلف دول العالم منذ إقامتها لأول مرة في الأورجواي عام 1930.

قادت دول كثيرة وحكومات استعمارية حملات دعائية مغرضة عبر مختلف وسائل التواصل الاجتماعي؛ وقنواتها الرسمية ضد دولة قطر لمنعها من استضافة المونديال، وذلك لأسباب واهية وغير منطقية، فهناك من يرفع شعارات حقوق الإنسان، بينما يُعلن البعض بعنصرية مقيتة أن العرب والمسلمين غير مؤهلين لمثل هذه التجمعات ذات الطابع العالمي. ولعلنا هنا نتذكر آخر هذه الخطابات التي تحمل مضامين الكراهية والحقد تجاه دولة قطر الشقيقة، تصريح وزيرة الداخلية الألمانية نانسي فيزر التي قالت "بالنسبة لنا كحكومة ألمانيا، فإنَّ حق الاستضافة هذا خادع للغاية". لقد نست أو تناست الدول الأوروبية في القارة العجوز، وخاصة ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وهولندا وإيطاليا وأسبانيا ما اقترفته من جرائم في حق شعوب العالم في القارات الخمس خلال الحقبة الاستعمارية من عبودية للمستضعفين من الأفارقة والآسيويين، وقتل وإبادة ونهب ثروات الشعوب في أنحاء العالم طوال القرون الماضية، فهؤلاء اليوم يزعمون أنهم حراس حقوق الإنسان ظلماً وبهتاناً، فرنسا اليوم ونحن في الألفية الثالثة، ما تزال تنهب أموال الأفارقة وتبتزهم للحصول على نصف ثروات هذه الشعوب خاصة في (بوركينا فاسو) وغيرها من الدول، وهذا الكلام ورد على لسان رئيسة وزراء إيطاليا الجديدة جورجيا ميلوني قبل بضعة أيام. كما أن ما يحدث على أرض فلسطين المحتلة من مجازر وتهجير وإرهاب من الصهاينة لم يكن ضمن اهتمام الوزيرة الألمانية وأمثالها من الذين يتغنون بحرية البشر وحقوقهم زورا ونفاقا، فالحكومة الألمانية تخصص موازنة سنوية لدعم الكيان الإسرائيلي الذي يقتل يومياً أبناء فلسطين ويهجرهم من أراضيهم.

لقد أظهر أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، شجاعة ورباطة جأش في مواجهة المعارضين لإقامة هذه البطولة في الدوحة منذ أكثر من عقد من الزمن؛ تاريخ إسناد الاتحاد الدولي لكرة القدم الفيفا (FIFA) لهذه البطولة 2010. فالأمير الشاب يملك إرادة فولاذية لا تجدها إلا لدى القليل من قادة العالم في هذا الزمن الرديء. فالشعب القطري الأبي وقف خلف قيادته الرشيدة التي هي مفخرة للأمتين العربية والإسلامية. وعلى الرغم من كل المؤامرات التي حكيت في هذا المجال فلم يكن الطريق سهلا أو مفروشا بالورود أمام الاستعدادات اللوجستية، وبناء المرافق؛ بل كأس العالم لهذا العام الأكثر تكلفة على الإطلاق حسب بعض المصادر التي قدرت إجمالي مصروفات الحكومة القطرية على هذا الحدث العالمي بحوالي 220 مليار دولار، بينما يتوقع المنظمون أن تصل العائدات إلى 17 مليار دولار فقط. لا شك أنَّ هذا الحدث الاستثنائي سوف يجعل من قطر معروفة على الخارطة الدولية. كذلك استطاعت الدوحة بذكاء وحكمة أن تقدم للعالم حقيقة ما يجهله البعض عن رسالة الإسلام، وثقافة دول الخليج أثناء حفل افتتاح البطولة التي شاهدها مئات الملايين من البشر حول العالم ليلة افتتاح المونديال الأسبوع الماضي.

بالطبع لم يكن هذا الإنجاز العالمي الوحيد لقطر؛ بل أصبحت هذه الإمارة التي لا حدود لطموحها في الريادة على مستوى دول المنطقة في الإنفاق على البحث العلمي الذي وصل عام 2017م إلى 2.8% من إجمالي الناتج المحلي للدولة، بينما تحتضن قطر فروعاً لأفضل الجامعات العالمية منذ أكثر من عقد من الزمن؛ إذ إنَّ الحكومة القطرية تقدم منحًا دراسية للقطريين في هذه الجامعات الرائدة ذات السمعة الرفيعة مثل جامعة لندن وكليتي الطب والقانون لجامعة هارفرد وجامعة أركنساس وغيرهم من الجامعات العالمية. ولا شك أن من روائع القيادة القطرية إطلاق شبكة الجزيرة بقنواتها المتعددة، كالجزيرة الناطقة باللغة العربية وشقيقتها الناطقة باللغة الإنجليزية؛ فهذا الحضور الإعلامي المميز قد منح دولة قطر مكانة رفيعة على مستوى الوطن العربي والعالم قاطبة؛ إذ استطاعت هذه القنوات التي تمولها الحكومة؛ التفوق على وسائل الإعلام العربية بلا منازع، فالجزيرة اليوم توجه الرأي العام العربي من المحيط إلى الخليج بكل سهولة، بينما دخلت قنوات الجزيرة في منافسة شرسة مع القنوات العالمية خاصة (CNN)، ونتيجة للثقة التي اكتسبها العاملون في الجزيرة، فهم يرددون عبارة مُعلقة في غرفة الأخبار بمقر القناة مفادها "كل العالم يشاهد قناة السي أن أن، بينما تشاهد قناة السي أن أن الجزيرة".

عمانيًا أعلن المسؤولون في وزارة التراث والسياحة في شهر مايو الماضي عن نية الوزارة إنشاء قرى أولمبية خلال المونديال، ولكن لم يتحقق ذلك لأسباب غير معروفة، في الوقت الذي يتطلع فيه معظم العمانيين، ومنذ عدة سنوات أن تتاح للسلطنة المشاركة في تنظيم بعض مباريات البطولة في مسقط لقرب المسافة بين البلدين الشقيقين؛ وكذلك للعلاقات الخاصة التي تربط الشعبين العماني والقطري، ولكن لا نعرف الأسباب التي منعت تحقيق ذلك.  

وفي الختام.. نُبارك لقطر حكومة وشعبًا إقامة كأس العالم على أرض الدوحة، ولأول مرَّة يُقام هذا الحدث العالمي في منطقة الشرق الأوسط ونتمنى للفرق العربية المشاركة في هذه البطولة الفوز خلال المباريات المقبلة.

** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري