المحكمة

 

عبدالله الفارسي

 

منذ فترة ليست بالبعيدة، اشتريتُ سيارة من زميل وصديق معي بالمدرسة، ونظرًا لسذاجتي الكبيرة وحماقتي العظيمة دفعتُ له المبلغ مُباشرة دون فحصها، وكنت أعتقد أن زميلي وصديقي لا يُمكن أن يكذب عليّ، أو يغشني، ونسيت تمامًا الحكمة العربية الشهيرة "احذر من عدوك مرة واحذر من صديقك ألف مرة"!

لقد غشني زميلي غشًا فظيعًا في السيارة التي ابتعتها منه، وحين واجهته بحقيقة الغش قال لي مُتشدقًا: "الحياة شطارة والغش مهارة". فعبّرتُ له بطريقتي عن تقززي الشديد مما فعل، وقررتُ الذهاب إلى المحكمة لتقديم دعوى قضائية ضده، ورغم يقيني بأن القانون لا يحمي السذج والمُغفلين أمثالي، لكني كنتُ أسعى إلى أن يقف زميلي أمام القاضي وأمام الحاضرين في جلسات المحكمة فقط لأعطي الجميع درسًا مفاده أن الغش والخيانة قد يأتي من أقرب الناس إليك، وأن الأغراب ليسوا هم من يغشونا فحسب، وإنما حتى إخواننا وأصدقاءنا من السهل أن يستغلوننا ويكذبون علينا ويغشوننا".

***

ذهبتُ إلى المحكمة ووصلتُ في منتصف الصباح، أذهلني المنظر وأفزعني عدد السيارات الواقفة أمام المبنى. لم أتمكن من العثور على موقف صغير لسيارتي الصغيرة، اعتقدت في البداية أنني أخطأت في العنوان وأن هذه ليست محكمة؛ بل جامعة أو كلية أو صرح علمي كبير. فسألت أحد الواقفين المدخنين: هل هذه هي المحكمة؟ فقال لي: نعم هذه هي المحكمة.

وبعد صعوبة كبيرة ومعاناة عثرت على ثغرة صغيرة بالكاد حشرت فيها سيارتي بين سيارتين وبصعوبة استطعت إخراج جثتي ذات التسعين كيلوجرامًا من سيارتي.

نزلتُ من سيارتي قاصدًا باب المحكمة، وتوقفت عند الباب ولم أتمكن من الدخول. وقفتُ متسمرًا مندهشًا مرتعبًا من المنظر، ولم أتمكن من فتح الباب والولوج إلى الصالة، فوقفت منتظرًا فجوة لأدخل من خلالها.

راقبت المدخل جيدًا كثعلب صياد وشاهدت فتحة بسيطة وبأسرع من البرق حشرت جسدي فيها، ثم أغلقت أنفي وغطست غطسة عظيمة وسبحت حتى الرواق الموصل إلى الدرج المؤدي إلى مكاتب المحكمة وغرفاتها. لم أصدق أنني خرجت سالمًا من تلك الزحمة المكتظة بالأجساد والأنفاس.

صعدتُ إلى مكتب تسجيل الدعاوى، فقدمتُ عريضتي، ثم نزلت إلى الدور الأرضي. فسألت نفسي: كيف سأخرج الآن؟ لا بُد من غطسة عظيمة أخرى لأجل الخروج من هذا الازدحام العظيم!

أغلقت أنفي وغطست غطسة احترافية، فأخذت ألوي جسمي بين الأجساد كثعبان صحراوي، هذا يدفعني وذاك يلطمني، حتى صفعني الضوء في عيني، وتمكنت من ملامسة الباب بأصابعي، ثم رميت بجسدي إلى خارج الباب وعانقت الشمس والنور والضياء. وقلت الحمدلله الذي أحياني بعد ما أماتني وإليه النشور.

***

شيء مثير للعجب والدهشة أن محاكمنا مزدحمة بشكل غريب.. القضايا بالمئات والملفات تملأ الأدراج والطاولات، والقضاة- أعانهم الله- تقع فوق رؤوسهم مسؤولية جسيمة وأمانة عظيمة.. الناس ابتعدوا تمامًا عن الحق، وأصبح ظلم الاخرين شيئًا طبيعيًا والاعتداء على الناس بات أمرًا عاديًا جدًا.

الحقوق تؤكل كما تؤكل النقانق، والناس يسرقون بعضهم نهارًا جهارًا دون خوف أو حياء. الأقارب يعتدون ويغشون بعضهم دون ندم أو قلق.

امتلأت المحاكم بالمحامين أصحاب المعاطف السوداء، نصفهم يدافع عن الظالم، والنصف الآخر يدافع عن المظلوم.

وتعبأت القاعات بطالبي الحقوق بالظالمين والمظلومين والمسروقين.. إخوان يتحاكمون على ميراث هزيل.. أخوات سلبت حقوقهن لأنهن إناث ضعيفات لا سند لهن. موظفون لم يقبضوا رواتبهم لشهور وتُركوا هم وأطفالهم للجوع والضياع والفراغ، مطرودون من أعمالهم يطالبون بحقوقهم.

وعمال أكل كفلاؤهم تعبهم وامتصوا عرقهم. وآخرون نُصِب عليهم بالحلف الكاذب والغش الماكر وشيكات وهمية دون رصيد. ومطلقون ومطلقات وهروب من مسؤولية الأمومة، ونكران لشرف الأبوة ومصائب لا تعد ولا تحصى.

****

هذا الاكتظاظ والتزاحم في أروقة المحاكم يعود الى تدني الأخلاق والبعد عن الله؛ فحين تنعدم الأخلاق ينحسر الدين وتذوب القيم وتنعدم المبادئ، وتمتلئ المحاكم بالبشر والمتخاصمين؛ لدرجة أنك لا تجد موقفًا لسيارتك ولا تستطيع الوصول إلى مركبتك.

الغريب المحير أن هناك دولًا ليست مسلمة، دول أوروبية عدد سكان الدولة الواحدة منها 4 أضعاف عدد سكاننا، لكن محاكمها خالية إلا من بعض القضايا، وسجونها فارغة إلا من بعض المتهمين والمختلين عقليًا، شعوبها عرفت ما لها وما عليها، أناسهم عرفوا حقوقهم والتزموا بواجباتهم، وهم لا يعرفون الإسلام ولا يدينون بهذا الدين الأخلاقي العظيم.

فصدق الإمام العلامة الشيخ محمد عبده، حين زار فرنسا في الثلاثينيات من القرن الماضي، قال قولته الشهيرة "وجدت إسلامًا ولم أجد مسلمين"، وحين عاد إلى القاهرة قال "وجدتُ مسلمين ولم أجد إسلامًا"!!

فاللهم أصلح الأحوال، وطهّر القلوب، ورُد الناس إلى دينك ردًا سريعًا وجميلًا.