مصداقية المدرسة الصحفية لدى الجمهور

عبد الله العليان

تميزت مصداقية المؤسسات الصحفية في عصرنا الراهن، بقدرتها على جذب الجمهور المتابع لما تطرحه المؤسسة الصحفية من مقالات وأعمدة وتحقيقات ومتابعات، تستهدف متطلبات واحتياجات المجتمع وقضايا الرأي العام عمومًا، وهذا أهم ما يلقى القبول في الصحف المتميزة بهذا الأسلوب، إلى جانب مزايا الكاتب ومصداقيته فيما يكتب ويستقرئ القضايا التي هي مدار كتاباته ومتابعاته الصحفية؛ سواء المحلية، أو الاقتصادية، أو السياسية، أو غيرها من أقسام الصحيفة المختلفة.

وتميزت مدرسة "أخبار اليوم" المصرية، من خلال رئيس تحريرها الأستاذ مصطفى أمين وأخيه التوأم علي أمين، برسم سياسة صحفية متميزة، جذبت كبار الكتاب إليها، والذين كانوا يكتبون في صحف ومجلات أخرى، أو ضم صحفيين جدد تميزوا في كتاباتهم الإبداعية من خلال صحف صغيرة، غير بارزة في الوسط الصحفي، وبرزوا أيضًا خلال مدرسة أخبار اليوم بعد ذلك، ثم في غيرها من الصحف، ومن هؤلاء الذين خرجوا من هذه المدرسة الصحفية بعد سنوات، الكاتب الصحفي الشهير محمد حسنين هيكل.

وأنتج الكاتب الأستاذ مصطفى أمين من خلال حياته الصحفية العديد من المؤلفات؛ سواء من كتاباته الصحفية، الممنوعة منها أو المنشورة، وكذلك العديد من الروايات، ومن هذه المؤلفات والروايات: "تحيا الديمقراطية"، و"أمريكا الضاحكة"، و"الكتاب الممنوع"، و"لكل مقال أزمة"، و"الفكرة المنوعة"، و"عمالقة وأقزام"، و"أفكار ممنوعة"، و"من عشرة لعشرين"، و"من واحد لعشرة"، و"نجمة الجماهير"، و"الـ200 فكرة"، و"سنة أولى سجن". وتبع ذلك بكتب أخرى تحكي قصة سجنه: "الآنسة كاف"، و"مسائل شخصية"، و"ليالي فاروق"، و"أسماء لا تموت" و"مشاهير الفن والصحافة"، و"صاحبة الجلالة في الزنزانة"، وغيرها من المؤلفات، كما صدر عن مصطفى أمين العديد من المؤلفات من بعض الكتاب عن حياته الصحفية وأفكاره تجاه الحياة والسياسة والثقافة.

ولا شك أن الكاتب الكبير الأستاذ مصطفى أمين، برؤيته الثاقبة للمهنية الصحفية كما عاشها، وتفرغ لها لما يقرب من 70 عامًا، كان يتابع كتابات المبدعين من الكتاب في الصحف والمجلات المصرية، الناشئة منها والمعروفة من حيث البروز والأقدمية، من الكتاب الذين يرى أن لديهم قدرات إبداعية، ويقدرهم ويسعى إليهم للكتابة في أخبار اليوم في أقسام الصحيفة، لأن الصحيفة تتقدم من خلالهم وليس العكس. وهناك مواقف كثيرة في هذا الصدد؛ حيث يسرد الأستاذ مصطفى أمين قصة أحد الصحفيين، الذي فُصل من عمله الصحفي، فيقول: "قامت صحيفة الأهرام في أحد الأيام بفصل أحمد الصاوي محمد وكان رئيس تحرير، وشعرنا نحن بالمهانة من أنَّ أحد أساتذة الصحافة في البلد تعرض للفصل .. ففي نفس اليوم ذهبنا له واتفقنا معه أن يعمل معنا رئيسًا لتحرير الأخبار ومجلة آخر ساعة، وصدرت جريدة أخبار اليوم وفيها خبر يقول: عاد فجر اليوم إلى أخبار اليوم أحمد الصاوي محمد رئيساً لتحرير الأخبار وآخر ساعة.. وكلمني الرئيس جمال عبد الناصر تيلفونياً وقال لي: ألم أكن معك صباح ومساء يوم الجمعة.. لماذا لم تقل لي أنك عينت الصاوي رئيسًا للتحرير؟.. قلت له: وهل يهمك هذا الأمر كثيرًا.. قال عبد الناصر: أنا يهمني تعيين رئيس التحرير أكثر مما يهمني تعيين رئيس وزارة".

كانت الصحافة آنذاك في أجواء الحرية الممنوحة التي عاشتها مصر في فترات بارزة من الحياة المهنية الصحفية، خاصة في العهد الملكي، والفترة الأولى من مرحلة ما بعد قيام الجمهورية المصرية.

كان مصطفى أمين أحد نجوم الصحافة البارزين في مصر منذ بداية سنوات الأربعينات من القرن الماضي، وكان المسؤولون آنذاك سواء في العمل الرسمي الحكومي، أو الأحزاب السياسية، يتهيبون من قلمه السيّال المتدفق بالنقد الشديد أحيانًا، تجاه القضايا السياسية أو الفكرية أو الاقتصادية، وكذلك كُتّاب صحافته الذين انتهجوا طريقته في النقد، فقد جعل الصحافة المكتوبة حبه الأول، والحرية جعلها جزءًا من شريان كتاباته، حتى إنه رفض اختيار أسرته عندما طلبوا منه أحد التخصصات العلمية في المرحلة الجامعية وما بعدها. فيقول في أحد أحاديثه الصحفية: "درست العلوم السياسية، وحصلت على الماجستير فيها، وعملت صحفيًا؛ وكان ذلك فرصة أرى أنها غير مهيأة لكل شاب؛ لأنني كنت أتمنى أن أدرس الصحافة أو أعمل بها؛ لكن أسرتي كانت تعارض ذلك؛ حيث كانوا يرونها مهنة خطرة مثلها مثل الطيران.. ورغم ذلك عندما ذهبت إلى أمريكا؛ لأكمل دراستي ووجدت النظام التعليمي هناك يتيح لي أن أختار من بين مواد كثيرة المواد التي تلائمني، فاخترت أقرب المواد إلى الصحافة، وهي العلوم السياسية، ولهذا استطعت أن أستفيد من هذه الدراسة".

وبالرغم من أن الكاتب مصطفى أمين واجه في حياته الصحفية الكثير من المتاعب، إلا أنه ظل متفائلًا، وهذا سر قدرته على الصمود في وجه العواصف الكبيرة التي لاقاها في حياته، وفي أحد أحاديثه يقول أمين: "هناك أناس ينظرون إلى الكوب الذي نصفه مملوءً بالماء؛ فيقولون إنَّ نصفه مملوء؛ فهؤلاء متفائلون، بينما هناك من يقولون: إن نصفه فارغ هؤلاء هم المتشائمون... وأنا من الصنف الأول، وهناك أناس عندما يرون الوردة يقولون: إنها مملوءة بالشوك، في حين أن هناك أناسًا آخرين لا يرون في الوردة غير جمالها، وأنا واحد من هؤلاء.. وأنا أؤمن بالشعب المصري إيمانًا عميقًا؛ فعلى مدى السنوات الطويلة التي عشتها ثبت لي أن هذا الشعب إذا آمن بشيء فإنه يصنع المعجزات، ولا يحدث ذلك إلا عندما تُشركه معك وتثق به؛ لأنك إذا وثقت به فإنَّه يثق بك، وإذا أعطيته الفرصة فإنه يصنع العجائب".

ويذكر الكاتب الصحفي أحمد البهنساوي قدرة مصطفى أمين على اختيار الكفاءات الصحفية، لمتابعة القضايا الساخنة؛ سواء كانت في داخل مصر أو خارجها، وكان يوكل للصحفيين القادرين على المغامرة في الظروف الصحفية مهام عدة، ومن هؤلاء الذين اختارهم، الصحفي الشجاع المرحوم مصطفى شردي الذي عمل رئيسًا لتحرير جريدة الاتحاد الإماراتية عند صدورها، ورئيسًا لتحرير جريدة حزب الوفد المصري، فيقول: "وما قام به الصحفي الكبير مصطفى أمين إزاء العدوان الثلاثي- أكتوبر عام 1956- حيث ظل شردي داخل بورسعيد وحمل آلة تصوير وصنع الأفلام التي تفضح بشاعة العدوان، وتسلل في ليل دامس في ملابس صياد وغاص في بحيرة المنزلة. ووصل إلى دار أخبار اليوم في الفجر وسلم أفلام الدمار إلى الأستاذين "مصطفي وعلي أمين"، وبأمر من القيادة حمل مصطفى أمين هذه الصور النادرة وطار بها ووزع الصور على كبرى صحف العالم لتنشر على صدر صفحاتها الأولى بفضح العدوان الثلاثي.. إنجلترا وفرنسا وإسرائيل".

من المزايا التي أرساها الأستاذ مصطفى، في مدرسة أخبار اليوم، أنه أنشأ جائزة صحفية سماها: "جائزة مصطفى وعلى أمين الصحفية"، وهذه الجائزة من الجوائز المحفزة على الإبداع الصحفي، كما تعد تقديرًا للمهنية في الكتابة وكل فنون الصحافة، وكانت موجهة لكل الصحفيين في الصحف المصرية. وأتذكر أن من بين الفائزين في هذه الجائزة الكاتب الصحفي المرموق الأستاذ فهمي هويدي، وغيرهم من الكتاب والصحفيين، وأمتد هذا التكريم إلى سكرتارية التحرير والمصورين ورسامي الكاريكاتير..

الحديث عن هذا الكاتب الصحفي الكبير سيستمر، فللحديث بقية.