هندسة المجتمع

 

مرفت بنت عبدالعزيز العريمية

بعض من الأفكار والعادات كانت مرفوضة سابقاً، إلا أنّه بعد مرور الزمن نرى نفس الأفكار أصبحت مقبولة، فالمتابع لنمط الحياة في العالم العربي تحديدا خلال مائة عام، سيرى الكثير من التحولات في أسلوب المعيشة والملابس وطرق التفكير وحتى في العادات والتقاليد الموروثة.

كنَّا نعتقد أن لا قوة يمكنها تغيير القيم والمعتقدات والأفكار، وأن تغييرها مرهون بقوتها ورسوخها في المجتمع، إلا أنّ واقع الحال أثبت أن عملية التغيير حدثت بالفعل دون أن نشعر. المجتمعات تتغير كالإنسان، سواء أكان التغيير للأفضل أو للأسوأ؛ فالوعي المجتمعي يتشكّل من خلال الإعلام والتعليم ووسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت، وقد ساهم الأخير في تسريع عملية التغيير حتى باتت المجتمعات متشابهة، وعادة ما تقوم القوى الاقتصادية والسياسية بقيادة التغيير وهندسة المجتمعات.

ظهر تخصص الهندسة الاجتماعية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، عندما توصل مجموعة من العلماء إلى ضرورة وجود علم يدير السلوك الإنساني، ويتعامل مع التفاعلات الاجتماعية كما يتعامل مع الأجهزة والمعدات، ومن هنا جاءت التسمية، تحديدا لمعالجة آثار الحرب العالمية الثانية في المجتمعات الغربية. فكان لا بُد من هندسة المجتمعات لحلّ تبعات الحرب النفسية والاجتماعية والاقتصادية للنهوض بالمجتمعات وإعادة بنائها من جديد.

إنَّ الهندسة الاجتماعية عبارة عن إدارة علمية، لمعالجة المشكلات والعادات الاجتماعية السلبية، تستند إلى بيانات المجموعة من المجتمع؛ لتحقيق إدارة ذكية ومستدامة لموارد المجتمع من أجل تحقيق أهداف التنمية. ويرى علماء الاجتماع ضرورة تطبيق المفاهيم والنظريات الاجتماعية، لمعالجة الظواهر والمشكلات الإنسانية من أجل فهمها، ومعرفة العوامل والقوى التي تؤثر عليها وآثارها وسبل معالجتها.

فالمهندس الاجتماعي يسعى من خلال فهم النظم الاجتماعية، للتأثير على السلوكيات ومواقف المجتمع بهدف التغيير. يقول عالم الاجتماع الألماني فرديناند تونيس، وأحد رواد الهندسة الاجتماعية، إن المجتمعات ليست قادرة على العمل بنجاح باتباع أساليب إدارة اجتماعية مستهلكة عفا عليها الزمن، وكي تتمكن المجتمعات من النجاح عليها توظيف التقنيات والتحليلات الإحصائية الموثوقة والأكثر تطورا لتحقيق نتائج أدق.

تتضمن الهندسة الاجتماعية تشخيص المشكلات بالمجتمع وتحديد توصيات لمعالجتها، إضافة إلى استخدام الأفكار والأيدولوجيات من النظم المجتمعية وربط الموارد الطبيعية والبشرية بالحاجات والمؤسسات الإنتاجية والبشرية من أجل تمكين المجتمع.

وقد لجأت المؤسّسات في الدول المتقدّمة، إلى المهندسين الاجتماعيين لمعالجة مشكلات الموارد البشرية، داخل المؤسسات فقد خلصوا إلى ضرورة وجود متخصصين، في فهم الطبيعة الإنسانية والعلاقات، لتطوير العمل وحلّ المشكلات التي تحدث في بيئات العمل، بين الموظفين والتي تؤثر بدورها على الأداء الكلي للمؤسسات. ومع تطور وسائل التأثير على الرأي العام، وبعد أعقاب الحرب العالمية الثانية تحديدا، وانتشار الرأسمالية الغربية، أصبح من اليسير التلاعب بالجمهور، وتغيير العادات والأفكار بتوظيف مجموعة من الوسائل التي تحقق نتائج واسعة.

يعد الإعلام من أكثر الوسائل تأثيرًا نظرًا لتعدد وسائله، وانتشاره الكبير بحيث غطى أغلب المناطق المأهولة على كوكب الأرض، ويمكن قياس تأثيره على حياتنا بالتغيرات التي حدثت في حياتنا الاجتماعية خلال القرن الماضي، والتحولات التي تحدث الآن في أفكارنا الاجتماعية واهتماماتنا وأنماط العيش.

على سبيل المثال، كان لظهور التلفزيون تأثير كبير في تغيير العادات الاستهلاكية، لا سيما مع وجود الإعلان الذي حول المجتمعات إلى مجتمعات استهلاكية، وذلك ترويجا لفكر رأسمالية المستهلك الذي مازال قائما حتى اليوم.

وحديثًا مع انتشار الإنترنت ظهر شكل جديد للهندسة الاجتماعية، يتم من خلال سرقة الحسابات الإلكترونية للأفراد وبياناتهم وصورهم ومن ثم تتم عملية الابتزاز ومحاولات التأثير عليهم فكريا للقيام بعمل ما أو فتح ثغرة أمنية أو الإفضاء بمعلومات سرية عن جهة ما.

فهي عملية تركز على مهاجمة الإنسان والضغط عليه من خلال استغلال نقاط الضعف وهذه العملية لا تحتاج إلى قراصنة متمرسين لإحداث التغيير، وهي عبارة عن استراتيجية مستمرة وبطيئة لتغيير الفرد والمجتمع.

من أشهر حملات الهندسة الاجتماعية التي حدثت في القرن الماضي، ما قام به (الاتحاد السوفيتي) لتغيير المجتمع من القيم القيصرية، إلى الفكر الجديد، فقام، آنذاك، بحملة شاملة للتغيير الجذري في المثل العليا والقيم، والسلوك القديم لبناء إنسان جديد، ووظّفوا كافة الوسائل الممكنة، كوسائل الإعلام والكتب والسينما والمسرح والتصميم المعماري.. وغيرها.

عندما أرادت سنغافورة تعزيز التماسك الاجتماعي بين السكان، نظرا لتعدد الإثنيات والثقافات، قامت بدعم الاختلاط بين السكان من خلفيات ثقافية مختلفة في حي واحد، وذلك بتوفير السكن بأسعار معقولة. فهي تعدّ من الوسائل الناجحة في تشكيل وعي المجتمع، لذلك يتم توظيف الهندسة الاجتماعية في إعادة تشكيل سلوكيات الأفراد، وتصحيح المفاهيم الاجتماعية الخاطئة، وتفعيل القوانين التي تهدف إلى تغيير السلوك السلبي مثل تخريب الممتلكات العامة، وإلقاء النفايات أو معالجة القضايا كالمخدرات والانتحار والاحتباس الحراري وغيرها؛ إذ تقوم الحكومات بحملات واسعة تشمل قوانين وضرائب وغرامات وحوافز إلى جانب حملات إعلامية وتوعوية عبر وسائل الإعلام والمجالس البلدية والمؤثرين... إلى آخره.

في عالم اليوم والفضاء المفتوح، المجتمعات عرضة للكثير من محاولات الهندسة الاجتماعية، وتغيير الأفكار لخدمة أجندات إجتماعية وسياسية واقتصادية وايدولوجية. ولأهمية دور الهندسة الاجتماعية في بناء المجتمعات أو هدمها من خلال قدرتها على زراعة الأفكار، وتغيير القناعات بقوة التكرار ونشر الأفكار.

وفي الوقت الذي أصبحت كل المعلومات فيها متاحة، وتعددت وسائل التأثير، فإن توظيف العلم والمناهج العلمية والعلوم الإنسانية كعلمي الاجتماع والنفس ونظرياتهما لتطوير المجتمع والقضاء على الظواهر السلبية، بأسلوب علمي يراعي التفاعلات البشرية مع الأحداث. بات ضروريًا من أجل التعامل مع المجتمع ككائن حي، يتفاعل مع المتغيرات التي تحدث من حوله.