القناعة بين التوكل والتواكل

 

يونس بن محمد السيابي

تُوجد في حياتنا بعض المفاهيم والمصطلحات المغلوطة والتي أسيء فهمها واتصلت بدلالات غير دلالاتها المقصودة ومن تلك المفاهيم عبارة نسمعها منذ طفولتنا وهي أنّ القناعة كنز لا يفنى.

هذه العبارة مثل عربي تفسره الشعوب وفق رؤيتها، وكما هو معلوم فالأمثال هي تجارب شعبية تنطوي على أحداث واقعية فكانت ملخصاً لمشاهد وأحداث ربما تحولت إلى ما نطلق عليه آيدولوجيات أو مستندات تركن إليها الشعوب عند مُمارسة حياتها في شتى الجوانب، وعلى ذكر الأمثال خاصة الشعبية منها فليس جميعها يمثل حكما أو نصائح إيجابية حافزة للعمل والسعي بل إن بعضها يحمل تطلعات وإيحاءات سلبية تكرس التثبيط وإمساك الإنسان عن بذل الجهد، فمثلا هناك من الأمثلة ما  يقول "امش  شهر ولا تعبر نهر"، وهو واضح في منع الإنسان من الإقدام واختصار الزمن، والمجازفة المحسوبة. وهناك مثل آخر سلبي تردده العامة يقول "بعد ما شاب، أرسلوه للكتّاب" وهو بلا شك دعوة للإنسان الذي فاتته المرحلة الدراسية وربما يكون قد كبر في السن ليظل قابعًا بلا ثقافة أو عمل  في حين المثل الإيجابي والفلسفة العربية الإسلامية تقول "اطلبوا العلم ولو في الصين" و"اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد".

وعودٌ إلى مثلنا "القناعة كنز لا يفنى"، فقد ساد هذا المفهوم عند كثير من النَّاس الذين أصبحوا يقبعون في دائرة الراحة ومساحة التقشف والبساطة وانشغلوا بالشعائر التعبدية دون الاحتياجات الدنيوية زاهدين متصوفين في حياتهم فلم يدركوا حقيقة وجودهم في هذه الحياة وظلوا مستترين خلف ستار الرضا والقناعة متناسين قول الله تعالى " وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ"، فجمدت عقولهم وضعفت عزائمهم واضمحلت أفكارهم فأصبحوا مستهلكين غير منتجين يرفعون راية الاستسلام للأحداث الإنسانية غير مؤثرين ولا قادرين على التغيير الإيجابي ولو بشيء يسير.

إن قراءة المفاهيم بشكلها السلبي المعكوس يُذكرنا بمفهوم التوكل عندما حوله الكسالى إلى نمط من القعود، فهم يدّعون أنهم يفوضون الأمر لله دون الأخذ بأدنى الأسباب فالتوكل هو تفويض الأمر لله والثقة بما قدَّر مع الأخذ بالأسباب والجد والاجتهاد، أما بالتواكل فهو ادعاء تفويض الأمر لله تعالى دون الأخذ بالأسباب والعمل الجاد، وللأسف الشديد قد يظن البعض أن تلك الأفكار والتوجيهات السلبية هي عين الصواب فترى بعضهم وقد تكاسل عن مُواصلة دراسته والبعض الآخر قعد عن السعي الجاد في طلب الرزق واكتفى بالدخل القليل، وقد ينزوي الموظف في دائرة الراحة ويتعاجز عن تنمية قدراته ومواهبه معللاً ذلك بأنَّ القناعة كنز لا يفنى والحقيقة ما هي إلا خوف من المجهول وقلق ووساوس من إجراء التغيير، جميعنا يعي أنَّ القناعة كنز ولكن بعد أن تقدم على ما لديك من طاقة ومعارف وتنمية قدرات حينها فقط تصبح القناعة كنز لا يفنى بالمعنى الحقيقي.

إن الدين والمنطق والواقع والحضارة جميعها جوانب تؤكد أن الإيمان ينبغي له أن يقترن بالعمل الحثيث لتحقيق الأهداف، فالعمل هو وجه من أوجه العبادة الحقيقية يطالب بالسعي إليه كل من الجن والإنس وإن الإنسان موكل بأن يبذل العناية الفائقة فيما يقوم به من عمل دون أن يحمّل نفسه مسؤولية النتيجة. لذلك لا ينبغي له- حين الفشل أو عدم تحقيق النتيجة المرجوّة- أن ينزوي محبطاً أو أن يربط ذلك ارتباطاً سلبيا بالقدر وتحديداً بالذات الإلهية؛ لأنّ ذلك تواكل وليس توكل. غير أن القناعة في وجهها الإيجابي تقتضي منك أن تقنع بما حصلت عليه من نتائج خلال ما أنجزته من عمل ولكن لابد أن يكون ذلك حافزا لك لتعاود الكرّة بكل مشروعية للسعي لإنجاز ما هو أفضل إذْ إن للإنسان بمقدار سعيه، لا أن يقعد وينتظر السماء لكي تمطر عليه غذاءً أو ذهباً وفي ذلك توجيه إلهيّ معروف بقوله تعالى: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى).

هذه التصورات الخاطئة تنمو في الأذهان فتصطدم بالحقائق الشرعية بسبب الجهل بماهية تعاليم الدين؛ حيث يُروى في كتب السِيَر أن ابن عباس قال: "كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون نحن المتوكلون، ويبدو أنَّ هذا  الفهم الخاطئ قد استمر في أهل هذه الناحية حتى زمان الخليفة عمر بن الخطاب عندما وجد أناساً من أهل اليمن فقال: من أنتم؟ قالوا نحن المتوكلون فقال: بل أنتم المتكلون، إنما المتوكل الذي يلقي حبة في الأرض ويتوكل على الله".

لقد أدرك هؤلاء القوم جزءًا من معنى التوكل وهو الاعتماد على الله وأغفلوا الجزء الثاني والأهم المتمثل في فعل الأسباب ومباشرتها وهو جزء أصيل من مفهوم التوكل الذي لا يصح إلا به فالله سبحانه وتعالى عندما خلق هذا الكون وضع له سننًا كونية ثابتة لا تتغير ولا تتبدل ومن بينها الربط بين الأسباب ومسبباتها. لذا فإنَّ مفهوم القناعة الصحيح هو التعكز على الأسباب والتوكل على الله ثم القناعة بالنتائج وهي دعوة للعلم والعمل والإيمان دون قلق أو خوف أو توجس من المستقبل.

القناعة إذن تدعو الإنسان إلى الرضا بما حصل وألا يحسد غيره على مارُزق من النعم قاصداً زوالها، بل تدعوه إلى الغبطة والحافزية للسير على نهج الناجحين والصالحين متبعاً الوسائل المشروعة مؤمنا بالحلال وإن كان قليلاً، عازفاً مبتعدا عن الحرام؛ لأنه من دنس الدنيا الفانية، والسعي هو أساس الغنى، فالجالسون- بدون عذر- لا يمكن أن يحققوا الطموحات مهما كانت درجة تدينهم وإيمانهم الخاطئ.

تعليق عبر الفيس بوك