بين العلم والخيال العلمي (2- 2)

د. حسن أحمد اللواتي

أعتقد أنك تستطيع التخمين إلى أين يتجه هذا الأمر، فالإجابة التي ستتبادر إلى ذهن الغالبية العظمى منَّا، على الأقل في أذهان من يحترمون قيمة العقل والمنطق في البحث عن الإجابات ستكون أن هناك جهة ما "صممت" أو "نظمت" الكون ليكون كما هو عليه بغرض إنتاج الحياة فيه وربما بالخصوص الحياة الذكية، ولكن كما ترى فإنَّ هذه الإجابة هي من صنف الميتافيزيقيا وتخرج من نطاق البحث الطبيعي المادي للكون، لذا فبغض النظر عن كونها أفضل إجابة قد يحصل عليها العقل الباحث عن الحقيقة فإنَّ مؤسسة العلوم الطبيعية لا تتقبل هذه الإجابة وتعتبرها خرقاً للمنهج العلمي الطبيعي للبحث وانحرافا عن مسار العلم نحو الفكر الثيولوجي والميتافيزيقيا وتصر على التزامنا بالضوابط والمعايير والقيود في تلك المؤسسة، حسناً، لا بأس، لنمشي مع مؤسسة العلوم الطبيعية في هذا الأمر وفق الضوابط والمعايير التي تطرحها ونتقيد بالقيود التي تلزمنا بها، ولكي نكون على وضوح فإن تلك الضوابط والمعايير الأساسية التي تتقيد بها المؤسسة العلمية للإجابات المطروحة هي:

  1. أن تكون النظريات والإجابات المطروحة على الأسئلة مبنية إما على التجربة العملية أو المشاهدات الحسية والرصد والمراقبة، بحيث يمكن اختبارها من خلال التجربة أو الرصد والمشاهدة وهو ما يُسمى بالقابلية للاختبار Testability.
  2. أن تكون قادرة على تقديم تنبؤات علمية قابلة للتحقق من صحتها أو خطئها، وهو ما يسمى بالقابلية للتخطئة Falsifiability.

لنرجع الآن إلى حيث تركنا موضوعنا عند نظرية التضخم الكوني، وتذكر أن الأمر كان لا يزال في نطاق المنهج العلمي في نظرية التضخم الكوني بالمستوى الذي عرضناه سابقاً، المشكلة -واسمح لي أن أسميها بالمشكلة لأنها مشكلة كبيرة في نظري-هي أن القلق الذي تسببت به مسألة لغز الضبط الدقيق لثوابت الكون الطبيعية Fine Tuning of the Physical Constants والخوف من تقبل الجماهير لتفسير وجود الخالق للكون كتفسير منطقي لهذا الضبط الدقيق دفعت بالبعض من العلماء للخروج عن نفس تلك المعايير والضوابط والقيود التي وضعوها للنظريات العلمية المطروحة، فمثلا لجأ بعضهم إلى القول بأن ذلك التضخم الكوني وإن كان قد توقف خلال جزء من عشرة آلاف جزء من الثانية في "هذا الكون"، إلا أنه مستمر بالحدوث بشكل أبدي Eternal Inflation في "فضاء ما" (وهذا الفضاء خارج هذا الكون الذي نعيش فيه)، ولأن الفضاء مليء بالتذبذبات في الحقل الكمي Quantum Fluctuations وهذه التذبذبات تحوي مقدارا من الطاقة يتناسب عكسياً مع طول الفترة الزمنية لتلك التذبذبات كما ينص على ذلك مبدأ هايزنبرغ في اللايقين، فإن التضخم الكوني الأبدي يقوم بتضخيم تلك التذبذبات وينشئ منها أكوانا متعددة مختلفة في ذلك الفضاء الذي يتخلل بين الأكوان المختلفة، ولأن طاقة الوضع لمجال الجاذبية  Gravitational Potential Energyسالبة في مقابل طاقة الكتلة الساكنة Rest Mass Energy الموجبة ومساوية لها بالمقدار بالضبط فإنَّ محصلة الطاقتين معا هي صفر وبالتالي فإننا نستطيع القول بأن التضخم الكوني الأبدي يقوم بخلق عدد لا نهائي من الأكوان بدون الحاجة إلى صرف أي مقدار من الطاقة، خلاصة هذا الكلام أن التضخم الأبدي يقوم بخلق أكوان متعددة بشكل لا نهائي من بذور التذبذبات الكمية في الفضاء الذي يتوسط بين الأكوان المختلفة.

خطوة واحدة أخرى وتكتمل الطبخة، لأن التذبذبات الكمية في الفضاء البيني مختلفة عن بعضها البعض فكل منها له طاقة مختلفة عن الأخرى فإن التضخم الكوني الأبدي هنا يمكن تسميته بالتضخم العشوائي Chaotic Inflation لأنه يخلق أكوانا متعددة تختلف عن بعضها البعض في خصائصها وصفاتها وثوابتها الفيزيائية.

هل ترى إلى أين يقودنا هذا؟ عن طريق القول إن هناك ماكينة تخلق بشكل مستمر أكوانا مختلفة طوال الوقت وبشكل لا نهائي أبدي فإن هناك عددا ضخما جدا من الأكوان المختلفة في الفضاء البيني المتخلل بين تلك الأكوان[1]، وليس غريبا أن تكون إحدى تلك الأكوان المتعددة بثوابت فيزيائية وخصائص تسمح بنشوء النجوم والمجرات والكواكب ومنها الكواكب الصالحة للحياة ومن ثم نشوء الحياة والحياة الذكية فيها، وحيث إننا لا نستطيع أن نتواجد في غير هذا الكون فإننا بشكل طبيعي نجد أنفسنا -كحياة ذكية- في الكون الذي نتناسب مع خصائصه وثوابته، فما الغرابة في ذلك؟

هذا التفسير أو الفرضية أو النظرية إن شئت تسامحاً أن تسميها كذلك هي البديل الذي يطرحونه لتفسير وجود الخالق الذي خلق وصمم الكون بالشكل الذي هو عليه، ويفترض أن يكون التفسير البديل بتعدد الأكوان منسجما مع الضوابط والمعايير والقيود العلمية في النظريات كما أسلفنا. بالنسبة لي أجد أن هذا يدخلنا بمجال الخيال العلمي، وربما قد يتحول هذا الخيال العلمي يومًا لواقع علمي، من يدري؟

 

[1]  هذا التنوع في الأكوان المختلفة يسمونه المشهد الكوني Cosmic Landscape وبحسب الإمكانات الرياضية التي تسمح بها فرضية الأوتار فإن هناك عددا من الإمكانيات أو الخيارات المختلفة للأكوان بحوالي 10^500 أي الواحد يليه خمسمئة صفر وهو عدد لا أعلم حتى إن كان يمكن نطقه بالكلمات.

تعليق عبر الفيس بوك