المرض النفسي.. لكل داء دواء

التوعية سلاحٌ لمواجهة "الجهل" بحقيقة الأمراض النفسية

◄ السحيباني: "الوصمة" مشكلة عالمية بسب ضعف ثقافة المجتمع

◄ العصيمي: الأمراض النفسية مثل الأمراض العضوية تصيب جميع الناس

◄ الهنائي: البعض يعزف عن مراجعة الطبيب النفسي خجلا من المجتمع

الرؤية- سارة العبرية

يُواجه المصابون بمرض نفسي تحديات كبيرة في رحلة علاجهم، في الوقت الذي أصبحت فيه الصحة النفسية أولوية عالمية، ومن أهم التحديات وأبرزها هي نظرة المجتمع للشخص الذي يُراجع طبيبا نفسيا، حتى تحول الأمر إلى "وصمة" تعرقل طريق الباحثين عن العلاج.

ويتسبب هذا التحدي المجتمعي في تأخر نصف المصابين بمرض نفسي عن العلاج بسبب مخاوفهم من نظرة من حولهم وتغير معاملاتهم أو خسارة وظائفهم، وذلك بحسب جمعية الطب النفسي الأمريكية، والتي أشارت إلى أن هذا الأمر يمثل مشكلة كبيرة في الكثير من المجتمعات.

 

الدراسات النفسية

أظهرت دراسة حديثة مستويات عالية من "الوصم" ضد مقدمي الرعاية الصحية في بلدان عربية عدة أثناء جائحة كورونا، وشملت الدارسة 1700 مشارك في 5 دول عربية هي السعودية ومصر والكويت والأردن والعراق، بالإضافة إلى إندونيسيا والفلبين. وأوضحت الدراسة أن مصطلح "الوصم الاجتماعي" يعني معاملة شخص أو أشخاص بطريقة غير جيدة بسبب مرض مُحدد.

وأشارت الدراسة إلى أن للوصم الاجتماعي العديد من الدوافع والأشكال، منها الخوف من العدوى، واللوم على التسبب بالإصابة، والتحيز ضد مجموعات عرقية، مثل الربط بين كورونا والصينيين، في حين أظهرت دراسة أخرى نُشرت في أبريل 2020، وأجريت على الفيلم الشهير "Joker"  الصادر عام 2019، والذي يُصور حياة شخص مُصاب بمرض عقلي جعله عنيفاً للغاية، موضحة أن مشاهدة الفيلم ارتبطت بمستويات أعلى من التحيز ضد المصابين بأمراض عقلية، وقد يؤدي إلى تفاقم "وصمة العار" الذاتية لأولئك الذين يعانون من مرض عقلي، مما يؤدي إلى تأخرهم في طلب المساعدة.

أسباب "وصمة العار"

ويمكن أن يُسهم الوصم والتمييز تجاه المُصابين بالأمراض النفسية في تفاقم الأعراض وتقليل احتمالية تلقي العلاج؛ حيث وجدت مراجعة لمجموعة من الدراسات أن "وصمة العار" الذاتية تؤدي إلى آثار سلبية تشمل تراجع الأمل وتدني احترام الذات وزيادة الأعراض النفسية وصعوبات في العلاقات الاجتماعية وانخفاض احتمالية المواظبة على العلاج والمزيد من الصعوبات في العمل.

ويقول الدكتور وليد بن إبراهيم السحيباني استشاري الطب النفسي بالمملكة العربية السعودية، إن "الوصمة" بشكل عام تجاه الأمراض النفسية تعتبر مشكلة عالمية، وتتفاوت شدتها بين مكان وآخر، وأن مُعظم الناس لا توجد عندهم خلفية عن الأمراض النفسية، لافتاً إلى أن هناك اعتقادات وانطباعات كثيرة في المجتمع تعد من ضمن الأسباب التي تُعيق الناس للذهاب إلى المعالج النفسي لأنهم يشعرون بالخجل.

ويرى الدكتور سلطان بن محمد العصيمي أخصائي نفسي بالمملكة العربية السعودية، أن الأمراض النفسية مثل الأمراض العضوية تصيب جميع الناس، فهي تعتبر اضطرابا عارضا يطرأ على الشخص نتيجة تفاعله مع ظروف الحياة وطريقة تعامله معها، ويصاحبه حدوث خلل في النواقل العصبية.

ويضيف أن "جائحة كورونا" ساهمت في زيادة معدلات الإصابة بالأمراض النفسية وساهمت كذلك في إبراز الأمراض الموجودة، وكذلك زيادة طلب المساعدة من كافة فئات المجتمع المختلفة، موضحًا أن الفترة الأخيرة شهدت ارتفاعا ملحوظا في الوعي المجتمعي تجاه الأمراض النفسية، وأن وسائل التواصل الاجتماعي ساهمت بشكل كبير في ارتفاع هذا الوعي والحد من الوصمة الاجتماعية.

النظرة المجتمعية

الكثيرون لا يستطيعون التفرقة بين "الاختلال العقلي أو الجنون" وبين بعض المشكلات النفسية البسيطة، ففي الحالة الأولى يتم تخصيص مستشفيات وعيادات خاصة لهم، أما المشكلات النفسية الطارئة أو "الاضطرابات" فهذه الحالات بحاجة إلى بعض الاستشارات الطبية لتجاوز المشكلة، سواء كان علاجا سلوكياً أو علاجاً دوائياً، لأنهم أفراد طبيعيون يعانون فقط من ضغوط الحياة أو بعض الصدمات العاطفية التي تتسبب في بعض المشكلات النفسية التي يمكن تجاوزها.

ويؤكد الدكتور أحمد ماهر الرفاعي طبيب نفسي بمستشفى الأمل للطب النفسي بمسقط، أن المجتمع يعتقد أنَّ المريض النفسي مجنون وغير جدير بالثقة ولا يمكن الاقتراب منه، حتى يجد الشخص الذي يعاني من مشكلة نفسية بسيطة وحيدا لا يمكنه الحصول على فرصة عمل مناسبة أو تكوين علاقات جديدة.

ويحث الرفاعي على ضرورة الاهتمام بنشر معلومات عن الأمراض النفسية والبدء في إعداد حملات إعلانية ومطبوعات أو كتب لتغيير المفاهيم لدى المجتمع، والتوضيح بأن الأمراض النفسية لها أسس علمية وتغييرات فى كيمياء الدماغ، ولا يتم تشخيصها بالإحساس ولكن عن طريق دليل تشخيصي خاص، وكذلك توفير عيادات خاصة واستشارات عبر الهاتف وتسهيل الحصول على الخدمة، لافتا إلى ضرورة تحفيز المصابين والتواصل مع الأفراد في المجموعات التي تعاني من وصمة العار لتغيير الفكرة المأخوذة عنهم، وعدم ترك المريض يخوض رحلة العلاج وحده؛ بل تحفيزه على العلاج والوقوف بجانبه لحين استكمال العلاج.

وينصح الدكتور أحمد الرفاعي كل مريض مصاب بالاضطرابات النفسية بعدم الخجل؛ لأن الاضطرابات القهرية تجعل الشخص يفعل ما يفعله الآخرون لكن بصورة أكثر تكرارا، موضحا أن المشكلة قد تصل إلى قلق مصاحب للوسواس الذي يجعل الحياة أكثر صعوبة.

ويقول إن الأمراض النفسية تصيب الرجال والنساء ومن مختلف الجنسيات والأعراق، مشددا على ضرورة الذهاب إلى أقرب طبيب نفسي متخصص، حيث إن هناك أدوية آمنة تماما لا تسبب الإدمان وليس لها أعراض جانبية قوية متاحة لعلاج الوسواس القهرى والأمراض النفسية الأخرى.

ويوضح طالب بن حمد الهنائي، مهتم بالعلوم النفسية، أن الوصمة الاجتماعية السلبية هي "وصمة عار" بسبب قلة الوعي  والثقافة الخاطئة وعدم معرفة ماهية الأمراض النفسية واقتصارها على مفهوم "الجنون"، مشيرا إلى أن الفترة الأخيرة شهدت عزوف البعض عن الذهاب للمستشفى النفسي أو الذهاب بسرية وتحت اسم وهمي حتى لا يعلم المحيطون به، مما يؤدي إلى تأخر استجابتهم للعلاج.

ويذكر الدكتورعبدالسلام بن سالم الشمراني استشاري الطب النفسي ومدير خدمات الصحة النفسية بالمملكة العربية السعودية، أن الاضطرابات الذهنية تمثل النسبة الأقل بين الاضطرابات النفسية، ولكن لها النصيب الأكبر من وصمة المرض النفسي، فالشخص المصاب أو العائلة تفضل أن يقال إن المريض مصاب بالسحر أو المس أو العين على أن يقال إنه مصاب باضطراب نفسي، مضيفا: "نجد أن العائلة تحاول أن تخفي الأمر مع ما يعاني منه المريض، مما يؤثر ذلك سلبا في تدهور الحالة المرضية وتأخير التدخل العلاجي وقد يصبح علاج الحالة أصعب مقارنة بالتدخل المبكر".

تقليل "الوصمة"

يشدد الدكتور السحيباني على ضرورة توعية الناس عن الاضطرابات القهرية لأن الكثيرين لا يعلمون أنها مشكلة صحية، وذلك للتقليل من حدة وصمة العلاج والمشاكل النفسية، بالإضافة إلى إطلاع الناس عن المرض النفسي، والحديث مع المصابين وعن تجربتهم في التعافي من الأمراض النفسية.

ويفيد الشمراني أنه يمكن مواجهة الوصمة بعدة أمور منها: زيادة وعي المجتمع بالمرض النفسي ومسبباته وكيفية الوقاية منه، وزيادة وعي المريض وأسرته بطبيعة المرض النفسي والأعراض النفسية وتقبل المرض النفسي، بالإضافة إلى تقديم كل ما يحتاجه المريض النفسي من الدعم كمراكز التأهيل وأولوية الحصول على الخدمات العامة.

ويشير الدكتور عبد السلام الشمراني إلى أن من ضمن الوصمات التي تتعلق بالمرض النفسي وصمة الأدوية النفسية وما يشاع عنها من أنها مخدرة وخطرة وتسبب الإدمان؛ مؤكدا أن معظم الأدوية النفسية مثل غيرها من الأدوية الأخرى آمنة.

ويلفت الدكتور سلطان العصيمي إلى أن الخوف قد يدفع المريض لعدم الاعتراف بأنَّه في أمس الحاجة إلى العلاج حتى لا يتم وصفه بالمريض العقلي، ناصحًا بضرورة التخلي عن هذه المواقف والحصول على العلاج المُبكر والتشخيص السليم، حتى لا يفقد المريض ثقته بنفسه، والابتعاد عن العزلة وتثقيف النفس حول الصحة النفسية لمواجهة ومناقشة المجتمع المحيط.

ويوجه الدكتور فراس بن علي العجمي طبيب نفسي بعيادة النفس المطمئنة بمسقط، أن أفضل طريقة للتخلي عن الإحساس بالوصمة، أن يحصل الشخص على علاج وعدم الاستسلام للخوف أو حديث المجتمع، مضيفا: "يمكن مساعدة شخص يعاني من مشكلة صحية نفسية كالاضطرابات القهرية، وذلك عن طريق الإقناع، كما أنَّه يجب البحث عن حل لمُشكلة المصاب بصفة عاجلة ومحاولة تجنب التعرض للنقد أو اللوم الذي يشعره بمزيد من التوتر، وأيضًا الإكثار في إظهار الحب والمشاركة في حياته بصفة يومية والمحافظة على روتين أسري لدعمه، وتوفير أجواء مرحة على مدار اليوم وتغيير المفاهيم الخاطئة عن الأدوية".

تعليق عبر الفيس بوك